استمعت لتغريده البديع على امتداد ثلاثين عاما خلت، عبر نغم ساحر باهر ينساب إلى أعماق النفس، فيسمو بالوجدان ويهذب الطبع..نغم يعكس صورة صادقة شفافة لتطورالأدب اليمني شعرا غنائيا يصطبغ بخصوصية المكان تاريخا وحضارة، وفنا موسيقيا آسرا يستلهم ألحانه وإيقاعاته من بيئة مواتية لتفاعل الإنسان اليمني المجبول على الإبداع الخلاق منذ فجر التاريخ.
عاش الفنان الكبير فيصل علوي ـ رحمه الله ـ داعية للحب، الذي هو أسمى وأجل المشاعر الإنسانية، فغنى لواعجه ما بين حرارة الشوق، وألم الفراق، وهجر الحبيب.
كان ـ رحمه الله ـ داعية للفن والجمال، عبر إحساس مفرط ومتفرد، وحساسية شديدة تجاه النغم الشرقي الأصيل، الذي أتاه منقادا، سلسا، مطواعا، فأودعه بصمة أستطيع أن أُسميها "فيصلية" لا تخطئُها الأذن أبدا.
عاش ـ يرحمه الله ـ بشخصية دؤبة، صابرة، مناضلة، تعكس ـ بصدق وأمانة ـ خصائص الإنسان اليمني في تسامحه، وطهره، ونقائه..في تفاعله تجاه الأرض والحياة ، ذلك التفاعل المشفوع بالغناء والترنم، ذلك الإنسان اليمني الذي ترك ركاما هائلا من الشواخص الأثرية التي تؤكد عمقه الحضاري العظيم..فكان الغناء من الشواهد الحية.
وعندما أذكر الغناء فلست أقصد به ما سمعناه ونسمعه من الفنانين اليمنيين ـ كالراحل فيصل علوي فحسب ـ وإنما المقصود غناء الأمة اليمنية بأسرها..إنه الشعب المتمكن والأقدر على أداء العُرَبِ الموسيقية الصعبة بين شعوب الضاد قاطبة، وذلك لعلاقته الوطيدة بالشدو في كل شأن من شؤونه الحياتية، ومناسباته المختلفة التي تذكي عواطفه وتلهب حواسه ليصدح شاديا مترنما في تعبير بليغ ينساب عبر لغة الغناء، ومن يستمع إلى الزامل الذي صدحت به جموع همدان القادمة لأداء واجب العزاء في مأتم الشيخ الراحل أحمد بن حسين الأحمر، سيدهش كثيرا، لكن الدهشة لن تكون لأجل لحن جنائزي يقطر لوعة وأسى، أو لشعرٍ متدثر بالفقد ومرارة الرحيل، ولكن لما يمتلكه الغناء من سلطة ونفوذ لدى كافة طبقات الشعب اليمني، ليكون له هذا الحضورالقوي في كل مناسبة من المناسبات، سواءً أكانت فرحا أم ترحا؟.
فالموسيقى والغناء آية الشعوب الضاربة جذورها الحضارية في عمق التاريخ ، على خلاف الجلفاء من الأعراب، ومن شاكلهم من المجتمعات الجاهلة المنغلقة المتقوقعة.
وفي الفقه الإسلامي ـ بمدارسه المتعددة ـ بقي الغناء مسألة خلافية، وسيستمر ما بقي هذا التباين في فهم النص ودلالاته.
لقد كان فيصل علوي ـ رحمه الله ـ علامة بارزة في الموسيقى على امتداد وطننا الكبير، وسيظل واحدا من أعلام العظماء في الفن والغناء، بما تركه من أرث نفيس سيخلده في أذهان الأجيال المختلفة!.
فرحمك الله يا أبا باسل وأسكنك فسيح جناته وغفرلك خطاياك!!.
0 التعليقات:
إرسال تعليق