حين يستهويني النص ويلح علي بقراءته فإني أتوجه أولا للبحث والتنقيب عن المفتاح الخاص كاتبه ليسهل عليّ بعد ذلك قراءة رسالته دون زيغ أو ميل، أوشطط، والغوص في مكنونات لغته، واستجلاء ما تحمله رموزها من معان ودلالات، لأشارك القارئ متعة الاكتشاف والسياحة، والمفتاح في حالة كاتبتنا غادة مخول صليبا هو (الحب) فمن أي جهة قَدِمْتَ إلى أسوار حرفها فاستعمله تنفتح لك الأبواب وتشرع لك المنافذ.و تنتمي غادة ـ بالضرورة ـ إلى ثقافات الشرق بما تشكله من مرجعيات دينية ثابتة، تبرز بجلاء في النصوص المقدسة، وتميز مناهج الأنبياء في تأسيسهم المجتمعات الأولى لأتباع الديانات السماوية، لا فرق بينها وقد خرجت من مشكاة واحدة. وكما استوعب المتصوفة في الدين الاسلامي مفهوم الحب الذي تأسس عليه مجتمع يثرب ـ اللبنة الأولى للمجتمع الاسلامي ـ وتَمَثّل في مؤاخاة النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار والأوس والخزرج، إذ كانت الأخوّة تعني ذروة العاطفة ومنتهى الحب.
والكاتب المهجري جبران خليل جبران يستلهم مفهوم الحب في أسمى صوره وأنبلها، عبر إرث ضخم للديانة النصرانية الغراء، فيخرج لنا كتابه ( النبي) ذائع الصيت، وهو الحب ذاته الذي أسهم في صياغة وتشكيل وجدان الكاتبة غادة صليبا، ليتحول إلى رسالة سامية تسيطر على كل حرف يغزله يراعها الشفيف .. ومن يطلع على قصتها ( بلبل في الذاكرة ) يدرك أصالة منهجها وعمق مرجعيتها المستمدة من النصرانية السمحة .. التي تكرس عاطفة الحب وتجعله الأساس الأسمى للرابطة الإنسانية، بغض النظر عن الانتماء العرقي أوالعقَدي .. وحينما كان استخلاف الإنسان على الأرض، مشيئة إلهية، الحكمة منها الإعمار وإقامة العدل والقسط والابتلاء، فإن استلهام جوهر الرسالات السماوية، والتعلق بها وتكريسها، إمعانا في نشر السلام والحب والعدل، الذي من شأنه أن يزيل التوتر والعداء، ويحد من الظلم وسفك الدماء، استلهامه غاية سامية ومقصد نبيل، وهي ذات الرسالة التي يتصف بها إبداع الكاتبة غادة مخوّل صليبا، وتفصح عنها قصصها، ومقالاتها ، ونصوصها الشعرية، ورسائلها الوجدانية، والتي أشارت في إحدى مقالاتها عن إيمانها بالحب منهج حياة، ورسالة تمنحها جميع القلوب فقالت :
(لست أدري عن حدسي الذي يؤمن بالحب، ولكن لا يجدر علينا أن نخنقه في معتقداتنا، فلنجعله حراً يلامسنا أينما كنّا ومتى شئنا. ليس بوسع أحد أن يتصور العزلة التي تعيشها الروح في حضرة الاحتقار للحب، ولكنها لا تأبه لذلك كله، إن أمامها رسالة تريد أن تهبها لجميع القلوب. لا يسعني..إلا أن أتألم، فالحب باختصار لم يعد كما نحلـم به.) تدفق..
الحب وطن!.
في مقالها تحت عنوان ( لم يذهب الذين نحبهم ) تحلق في فضاءات فلسطين الجريحة بتحريض عاطفي تنقدح شرارته من حنين لصديقتها في رام الله ، لأنها كما تصف نفسها قائلة : (لم أتقن بعد فن خربشة التجاهل)، وعلى هذا الأساس تبعث لتلك الصديقة برسالة قصيرة عبر الموبايل، ومنها تولد التداعيات التي يستهلكها المقال، بما يحتويه من نصوص غائبة، وتتراوح بين الإخفاق العربي، والتطلعات الفلسطينية، والشعر النضالي لدرويش ، وغير ذلك، إلى أن تختتم بعبارة موجهة لصديقتها :
( إنني أحبكِ أيتها البعيدة القريبة، وأحتسي بشوق مشروبي الداكن والدافئ بنكهته الدرويشيّة التي تأخذني في رحلة مع قلمي لربوع مدينتكِ المنسية.) .
وحين تكتب إلى حبيبها النائي وتبثه لواعج الشوق طالبة منه الإياب في مواسم الفرح التي تنتظرها فلا بد أن يكون عيد الوطن ضمن هذه المناسبات، لأن هذا الحب لدى الكاتبة ذو خارطته متسعة، تتجاوز حدود الذات ومناسباتها الخاصة، ولا بد وأن يكون الوطن فيه حاضرا؛ وإلا فهو حب لا جدوى منه ، تقول:
( أنتظرُكَ في عيدِ مولدي، وعيدِ العشاقِ وأيضاً .. في العيدِ الوطنيِّ لبلادنا! ..) دمعتي وابتسامتك.وهكذا نجد أن الأرض، والوطن، والانتماء، عناصر مهمة لاشتعال جذوة الحب في النفس ، تؤثث الوجدان بكل الأحاسيس النبيلة، لكن التغريد بعيدا عنها مدعاة لمضاعفة الأسى على ما يبدو: ( أكتب عن قصيدتي خارج حدود أرضي وحنيني إليها، وأنتزع قبلة الشوك من صدري.) وردتان وحكاية الألم.
والحب إنسان!.
في ذكرى اغتيال رفيق الحريري تخرج غادة على قرائها بمعزوفة عابقة بالحب الذي عمر وجدانها للحريري الإنسان، بما كان يجسده خلال حياته من رمز للحب والسلام، وأيقونة للتسامح والنبل والكرم جاء فيه: (عن الإنسان الرفيق، الذي أحببتُ، كان ذاك الرجل العميق بشخصيته القريبة للجميع وإبتسامته التي لم تفارق محيّاه والتي ما زالت منطبعة في ذاكرة من أحبه لخيره. كان سيداً مشجعاً للعلم وللوفاق القوي لمختلف ارادات أطياف الشعب اللبناني وللمساهمة ببناء جيل مصقول على المحبة والمعرفة وبعيدٍ عن العنف لخدمة ازدهار الوطن الحديث، وتوطيد العلاقات بين جميع الفرقاء اللبنانيين والعرب والأجانب.) لكم رفيقكم وليَ رفيق.
وفي النص القصصي "بلبل في الذاكرة" ..تتناول جانبا من حياة "شاندري" الخادمة الأسيوية، أثناء عملها مع أسرة عربية، تسومها الذل، وينالها من الصلف والقسوة على يد سيدتها ـ بشكل خاص ـ ما يضاعف الألم ويحز في النفس، إلا أن ذلك لم يغير من عاطفتها تجاه مخدوميها، طالما كانت بثينة (الطفلة) تشكل عنصرا هاما في إذكاء العاطفة النبيلة من جانب واحد، فظلت تحيطهم بالحب والاخلاص، إلى أن غادرت عائدة لوطنها، والقصة في تفاصيلها إنسانية خالصة، تنمو في محيط من المفارقة والتناقض، حيث الحب الذي يعمر وجدان الخادمة، في مقابل الجفاف والقحط العاطفي من قبل السيدة المخدومة، وتكاد الرسالة التي تركتها شاندري تختصر الكثير من معاناتها وتلقي الضوء على فحوى النص أيضا فتقول:
(طويت صفحة غربتي وآن الرحيل، وقبل عودتي إلى دياري، أتَت سيدتي تتفقد مقتنياتي. كنت خائفة وخبأت ما سرقتهُ في جيبي، ثم توجهت مسرعة إلى المطبخ وتركتُ على الطاولة مكتوباً كتبته بلغتي الأم:
«سيدتي.. في بلادنا، يستحم أولادنا بالمياه العكرة، ويمرحون في بحيرات الوحل.. ينامون في العراء، ويأكلون فضلات الطعام.. يلاطفون الحشرات، ويعشقون المطر.. أحياناً، تجرف الفيضانات البيوت، ويتشرد الآلاف.. ويستوطن المرض أجساد الفقراء، لكنهم يقاومون بالإرادة والكفاح للبقاء أحياء.. نحن مخلصون في الحب ونستمتع بالموسيقى، بالضحك، بالحرية، وبالأحلام.. نحن مفعمون بالحياة حتى نقهر الموت المتربص بنا.
أعترف لكِ: لقد قمتُ بسرقة صورتين.. الأولى لبثينة، وهي تقطف الياسمين، والثانية لكِ، بردائك المخملي الأحمر.. حلمتُ مراراً أن أكون مثلكِ بكامل أناقتي.. تمنيتُ أن ينعم الله على عائلتي بالاستقرار. كما أرجو أن تسامحيني، فلقد أطلقتُ عمداً سراح البلبل من سجنه ليلة أمس، لأنني أحترم حريّة الأرواح..».
ختاما: لقد حشدت الكثير من المقالات والنصوص المترفة بالحب للكاتبة اللبنانية القديرة غادة مخول صليبي على أمل أن يستوعبها مقال واحد ، لكنني وجدت نفسي أمام عمل يشابه كثيرا الرصد، والملاحقة، والببلوجرافيا، مما ضاعف من المهمة في غياب الهمة، ومع ذلك فما لا يدرك جله، لا يترك كله، وحسبك أنني قرأت، وشعرت بالمتعة التي لن تجدوها إلا بالمتابعة من قبلكم أنتم .
ــــــــــــــ
المصادر:
**مجلة المرأة اليوم.
وبها زاوية الكاتبة بعنوان / قهوة من كلمات.
**صحيفة المستقبل اللبنانية.
**جريدة العربي اليوم
شرح الصورة المصاحبة للنص /
الأديبة اللبنانية السيدة / غادة مخوّل صليبا.
**مجلة المرأة اليوم.
وبها زاوية الكاتبة بعنوان / قهوة من كلمات.
**صحيفة المستقبل اللبنانية.
**جريدة العربي اليوم
شرح الصورة المصاحبة للنص /
الأديبة اللبنانية السيدة / غادة مخوّل صليبا.
0 التعليقات:
إرسال تعليق