صدرت (جنون) عن نادي الطائف الأدبي وهي المجموعة القصصية الأولى للكاتبة السعودية نجوى العوفي ، احتوت على خمسة عشر نصا مسبوقا بالاهداء الذي سطرته الكاتبة اعترافا لذوي الفضل بفضلهم فأهدت باكورة انتاجها هذا لوالدتها (اعظم نعمة خصني بها الرحمن 1) ثم لزوجها ( الذي حول الصعب سهلا والمر عسلا2). وأود أن أشير هنا إلى أن هذه المجموعة لم تطرح في السوق ولم يتم توزيعها الى هذه اللحظة.. مما يعنى انها لم تصل إلى يد القارئ والمتابع ..وبالمناسبة أهيب بدور وزارة الثقافة التي تأخذ على عاتقها دعم الشباب في طبع نتاجهم ..غير أنها تقوم بتسلمهم إياه اكداسا من النسخ ليتولوا شأن نشرها أو اهدائها وتتناسى قضية التوزيع تماما!! وهذا ما تفعله الأندية الأدبية إلا ماتقوم بتوزيعه من نسخ محدودة عن طريق الاهداء ، الذي بموجبه وصلتني هذه النسخة من مطبوعات نادي الطائف الأدبي سنة 1428هـ التي تقع في 61 صفحة مقاس 14في 21سم وغلاف صقيل حجم 70 غراما بلوحة تعبيرية على الغلاف الأمامي ..وتقديم مقتضب من النادي على الغلاف الخلفي (انظر صورة الغلاف)..ملامح الفن السابع
أول ما استوقفني عند تصفح هذه المجموعة ، ما لمسته من مهارة الحركة في الانتقال بين مشاهد القصة عموما، أما مشهد الاستهلال فقد وجدته لوحة حافلة بالمؤثرات البصرية ، إذ تختاره القاصة بعناية شديدة ، وذلك لتهيئة القارئ للولوج إلى أحداث قصتها ، بما تحتويه تلك التهيئة من عناصر مبثوثة في مسرح الحدث ، وما يحيطها من سمات ، لتذكي انفعالات عاطفية مختلفة..هذا إلى جانب الرؤية الفنية السينمائية والحس التشكيلي الذي سيكشف لنا عن جانب آخر من عالم نجوى القصصي ..الى غير ذلك من الخصائص اللغوية والتقنية الفنية لدى القاصة نجوى العوفي..دعوني المح أولا الى مهارة الانتقال بين مشاهد القصة..ولناخذ القصة الأولى من المجموعة على سبيل المثال .. فالقصة (ولد حبي ميتا) مكونة من مشاهد رئيسية ينقسم فيها المشهد بدوره الى عدد من اللقطات.المشهد الأول وهو أيضا المشهد الاستهلالى: (مؤلم أن أتأمل غروب الشمس وأنا أرى هذا المخلوق الكبير يصارع من أجل البقاء..يرسل اشعته الباهتة في ارجاء الارض ..يلتمس العفو والصفح..يتشبث بالسماء وكأنه اخطبوط ، يرسل أذرعته الطويلة ليمسك المستحيل 2) المشهد يضج بالحزن الذي يدثر النفس وهي تعيش النهايات المؤلمة للأشياء ، والمتمثلة هنا في موت الضياء والنور ، رحيل الشمس عن الدنيا ..إيذانا بدخول الظلام وانهزام الألوان من كل التفاصيل ، وما يعقبه من تحرر وانفلات للخيال فيتحول المكان الى مسرح يعج بالأشباح والأرواح ..ظلام يمد جرانه ويتمطى بصلف وقسوة بما ينطوي عليه من الوحشة والسكون ..المكان في هذا النص هو القرية (الريف) ، وهنا المؤثر البصري ينهض بجلاء ووضوح فيما كانت تراقب غروب الشمس..(الأشجار تقف بيني وبينها ..تتمايل أغصانها3 ) .. والغروب هنا هو (المشهد الرئيسي) أما الأشجار المتمايلة فلقطة تضاف للمشهد ، الذي ينبت الحدث على ضفافه كعامل مهم في خلق التأثير النفسي الذي بدوره يرتفع بالنص ويكسبه تفاعل أعمق من قبل القارئ.. خلفية المشهد هنا قد أضيفت له بل وأصبحت عنصرا أساسيا ذات دلالة متجانسة مع المشهد نفسه.المشهد الثاني: فلاش باك ( أذكر كيف أصبح البيت خلية نحل من النساء ، هذه تغسل ، وتلك ترتب ، والكل يعمل ..إلا أنا ، أنظر إلى شمسي الغاربة بفرح 4) العبارة الأخيرة هي لقطة من لقطات المشهد وانتقال سريع بين الحركة الدائبة التي عمت المنزل وبين البطلة التي ترقب الغروب انتظارا لدنو الموعد ..المشهد الثالث : عودة للبطلة في مشهد يحكي تأزمها الشديد وهي هناك تراقب الغروب قائلة..(اليوم أيتها الشمس المتشبثة بالبقاء ، ابقي وأنا سأرحل مكانك ، فلم يعد لي بقاء هنا ، فقد ولد حبي ميتا 5) وهكذا تتوالى المشاهد الى نهاية القصة..في مزج بين الماضي والحاضر وسنعود للحديث عن قصة (ولد حبي ميتا ) في عرض مستقل. إننا نلمس لدى العوفي تمكنها من بناء المشهد المستوفي لعناصر التأثير البصرية والسمعية ،على حد سواء ، تماما كما هو في الفن السابع. ومن هنا نستطيع القول أن القاصة تختار عناصر اللقطة (المدخل) المشتملة على : المكان ، والزمان ، والموسيقا ـ خلفية المشهد ـ بدقة وحرفية ، انطلاقا من رؤية المخرج السينمائي المتمكن ..وكأن المُشاهدُ هو المستهدف أولا وليس القارئ ، لتسير معه في تناغم وانسجام .. فالموسيقا التصويرية تبرز بوضوح من خلال الجمل المسجوعة لتمثل اللحن على غرار: ( ..والكل يتناقل حكايتي معه.. يضيف ما يشاء..وينقص معنى الصفاء..ويتلهفون للمساء ..لتكون حكايتي حطب المدفأة ودفء الشتاء6) ، فيما نجد رتم الإيقاع يبرز جليا في قصر الجمل : (سهرت ..وحلمت..وأحببت 7) ، وهكذا بحسب النَّفَس المودع في الجمل قصرا أوطولا ، نعثر على الرتم الإيقاعي في الموسيقا التصويرية التي استخدمتها القاصة ، على مدار المجموعة بشكل ملفت ..النص الأول اتسم بالموسيقا الجنائزية ..في لغة تقوم على معاني الموت والرحيل ..فالشمس تجدها القاصة في لحظة ما بأنها ( ذلك القرص من النار ..يمتد كالشوارع المجنونة ..التي تفقدنا حبيبا وصديقا وجارا وتستسلم في النهاية لطبيعة الكون التي أرادها الله 8) في اشارة ماّ للفقد ..ولأن مشهد الغروب له دلالاته وإيحاءاته ، فقد استخدمه في القصة الثانية (حكاية حب مجنونة) كلوحة افتتاحية أيضا تنمو على مسرحها هذه الحكاية..وقد تجمع إلى الغروب ، لقطة الشروق ..فيأتي كثنائية مضطردة..يرمز للحلم والأمل الذي تعيشه كأخيلة فحسب ، ولا رصيد له من الواقع..ولتبقى حقيقة الحدث تستمد واقعها من مشهد الغروب ..تقول: ( كل العشاق يعشقون الغروب..يسكنهم لون الغروب..يحزنهم لون النهار..يبحثون عن المساء..عن لون الظلام ..ليختبئوا في عتمة لونه..هذا يشكو الألم والفراق..وهذا يبكي الوداع..9) ..المشهد نفسه في النص الأول..لكنها هنا لا تنتزع منه معاني الرحيل ، والخوف ، والوحشة، والوجوم ..بل ما يؤذن به من حلول الظلام ، وبما فيه من سكون ودعة ، ففيه تنام الحياة ، ويهدأ صخبها ، وضجيجها.. وتسكن حركتها.. ليبدأ ليل العشاق زمنهم المفضل دوما..ثم لاحظ المشهد التالي من (قاتل والورود) ما احتواه من المؤثرات البصرية : (ترفع تلك السجانة يدها الممتلئة ، لتودع رئيستها بتحية أفراد الشرطة ، لتخرج خلفها وتتركها وحيدة في غرفة باردة ، جافة من معنى الحياة ، لا يوجد بها إلا جدران قديمة ، مظلمة كظلمة الليل الحالك ، وفي إحدى زوايا الغرفة ، مكتب قديم رث ، يكاد يسقط من الحمولة التي عليه ، من ملفات متناثرة أوراقها ، وأكواب شاي فارغة ، إلاّ من أكياس ومناديل دست بداخلها ، وبقايا بسكويت متناثر على الأوراق وعلى أرضية الغرفة 10) هو مشهد الاستهلال الذي تنمو على اعتابه قصة (قاتل الورود) ..وتأمل الفوضى في تلك الغرفة ، حيث أضيفت تفاصيل الديكورهنا الى المشهد ذاته كما قلت آنفا ..ومن شأن ذلك أن يعتقه ويكرسه في ذهن المتلقي لخلق المزيد من التفاعل مع البطلة.السمة التراجيدية
ربما لأن هذه هي التجربة الأولى للقاصة نجوى العوفي فقد غلب عليها اسلوب المدرسة الكلاسيكية الواقعية..ذات النفس الطويل ، بعيدا عن الرمزية ..بل وظهر تأثرها الشديد بالمنفلوطي، والرافعي ،وحنا مينة ، وجماعة الرواد من تلك المدرسة..التي تعتمد على الشعرية التراجيدية (المأساة) اقرأ على سبيل المثال: (ابكِ أيتها السماء..فلتغسلي أرضك العطشى للدماء..لقد ماتت شهيدة الحب..لقد ذبل الياسمين ..وتفتت غصن الريحان 11) ..أما من حيث المنحى فقد اصطبغت نصوص المجموعة بالتراجيديا الدامعة انظر النصوص : ولد حبي ميتا ، انتحار لحظة فرح ، قاتل الورود ، مللت منك ، وترجل الفارس ، الحلم الذي تحقق ، لا تقتلوا فينا الأمل ، اليوم ليس يومي ، وردة الياسميين ، ولعل القارئ سيكتشف ذلك بسهولة مع أول مصافحة للمجموعة.القاصة التشكيلية..
عند تصحفك للمجموعة ، تكتشف أنك تقرأ لفنانة تشكيلية ، نعم هي كاتبة متمكنة ومبدعة في الرسم بالكلمات ..وإنما أعني هنا الرسم بالريشة والألوان .. بل إن القصة التي حملت عنوان المجموعة (جنون) هي قصة رسام يسرد معاناته واخفاقاته المتتالية لطبيب العيادة النفسية .. وحتما نحن نستطيع أن نتلمس بعض الجوانب الشخصية للمبدع من خلال نتاجه الفكري فنعثر على تطلعاته واهتماماته ونستطيع سبرأغواره النفسية والعاطفية ، وبناء ملمح تقريبي عن ثقافاته ومعارفه التي يصدرعنها وما إلى ذلك..ولعله يأتي من يقول : هب أن القاصة نجوى العوفي لها اهتمام بالرسم.. فهل لذلك أهمية خاصة تنعكس بدورها على أعمالها القصصية ؟ فيكون الجواب : بالتأكيد فهذا يمنحنا مفتاحا له أهميتة في فهمنا ابداعها والاقتراب منه ، وتذوقه وتصنيفه..فعلى سبيل المثال نجد القاص السعودي خالد محمد الخضري في أغلب نصوصة يأسرنا بتقنية الحوار السلس مما يبعد شبح الاضطهاد عن شخوص قصصه فيدعها تعبر عن نفسها بحرية تامة ..نعم هو من يحركها في النهاية .. إن مرد ذلك في نظري ، كونه انطلق من خلفية مسرحية ـ أعلمها عنه منذ سن مبكرة ـ أكسبته تلك المهارة ..وقد تكون له تجربة لاحقة في كتابة النص المسرحي والروائي..ولندرك أن كافة الفنون التطبيقية والنظرية مهارات تجري في سواقي متعددة لتشكل نهرالإبداع وترفده..وكلما أتقن المبدع فنونا مختلفة كان أكثر اقتدارا وتأثيرا..في نص (جنون) على سبيل المثال نلمس الصورة المخزونة للرسام في ذاكرة الراوي ـ طبيب العيادة النفسية ـ حيث يقول: (أعتقد أن الرسام يمتلك عالما جميلا ، يريحه هذا العالم من الضغوط التي تواجه غيره ..إنه لا يعاني من الكبت أوالقلق الذي يحدث لمعظم رواد عيادتي لأنه يتنفس من خلاله 12) ..ثم يبدأ الرسام في سرد معاناته ويبدأ يفضض للطبيب الذي يصغي له بتركيز شديد فتأتي عباراته على غرار: ( كل يوم أنتقل عبر الألوان إلى مسافات أبعد من حدود الواقع ..شعرت بالمتعة والسعادة..فعندما يتحول المستحيل إلى لوحة ، أتفنن في وضع خطوطها وألوانها 13)...ونحو (عندما أرسم يادكتور ..أشعر أنني أملك العالم 14)...(جعلتني الألوان سيدا أتخيل ما أشاء 15) ...( أتصدق أنني كنت أرسم لوحة احترت بين لون الأصفر والبرتقالي لألون الشمس، ناديتها...الخ 16)..وهكذا على مدار أربع صفحات استغرقتها قصة جنون نجدها تضج بلغة الخطوط والألوان..كذلك الحال في قصة (انتحار لحظة فرح ) حيث تطل علاقة التداعي بين خطوط حياتنا ، وخطوط الريشة في يد الرسام..تقول على لسان بطلة القصة : (عندما نحب ، تموج الألوان بين أيدينا ..ليصبح الكون لوحة مجنونة ..لرسام عاشق ، يمزج جميع الألوان ، لتفوز لوحته بالجوائز ، ويقف الجميع ليصفق لهذا الإبداع الفني النادر..الذي لا يستطيع أحد وصفه ، حتى من داعب اللوحة البيضاء بفرشاة ألوانه المتعددة 17) وفي نفس القصة تتحول مخزونات الذاكرة الى معرض فني للوحات تشكيلية ..تقول البطلة نفسها : (وأبحث في مخيلتي عن اللوحة المجنونة ، لأدرس تفاصيلها وأموج بين ألوانها لتسكنني خطوط وجهك الجميل 18). قصة أخرى تحت عنوان (لون الثقة ) نجدها في الأصل محاولة لقراءة لوحة زيتية لم تكتمل بعد ...ملخصا أن فتاة (بطلة القصة) تزور صديقتها الرسامة وقد حولت غرفتها إلى معرض تشكيلي فتبدأ في شرح بعض لوحاتها ، لكنها... (تذكرها أنها لا تفقه في فن الرسم شيئا ، ولا يغريها هذا العالم بتعدد ألوانه وجراءة خطوطه وجمال لوحاته حتى الفرشاة ، هي لا تعرف كيف تستخدما 19)..وبعد هذا الاعتراف من قبل البطلة لا تلبث أن يتغير الحال فتلج باستغراق في عمق اللوحة المثبتة على الحامل امامها في محاولة لاستقراء مدلول الألوان ..دعوني اختار لكم فيما يلي مقاطع من قصة ( لون الثقة) على سبيل الاستشهاد فبالاضافة الى المقطع السابق نستعرض: 1 ـ (تتأمل اللوحة، ألوانها البديعة ، وخطوطها الساحرة ، إنها تداعب شيئا ما بداخلها ، كأنها تعرف هذه اللوحة ، أو أنها تحكي عن شيء لم تستطع فهمه ، تنظر اليها بشموخ امرأة بدوية ، جالت الصحارى ، وذاقت العذاب )..2 ـ (تبتسم وهي تتأمل ذلك اللون الأحمر ، الذي سقط كقطرة ماء من أعلى اللوحة إلى منتصفها ليحمل تجاعيد قريبة من تجاعيد شفتيها ..)3ـ (حين رأت جراءة اللون الأصفر يكتسح الجانب الأيمن من اللوحة ، ويمتد في خيوط رفيعة ليلامس اللون الأزرق..)4ـ (ذلك اللون الأبيض الذي يشكل البدر الصغير القابع في الزاوية السرى أعلى اللوحة ,,يذكرها..)5ـ (لتجد نظراتها تتركز على اللون البرتقالي الممزوج بالحمرة وحوله هالة من اللون الأصفر الشبيه بلون الغروب ..إنه لون التحدي 19).لون الثقة..قصة تتحول فيها البطلة الى قارئة للدلالات اللونية وقد كانت تعتقد أنها لا تحسن ذلك في اقرارها المسبق ولكنها تنجح عندما تركتها صديقتها لتحضر لها شيئا تشربه..وفي هذه الأثناء ومن خلال اللوحة الزيتية تقرأ لنا سيرتها الذاتية مابين فرح وترح وتفاصيل حياة بين مد جزر ..وانتصار وهزيمة..وتتصاعد وتيرة الانفعال حتى تذرف الدموع. على هذا النحو نستطيع القول إن نجوى العوفي نقلت لوحاتها الى قصص رسمتها باستخدام عنصر اللغة ..فنجحت بامتياز وبراعة في تقديم تجربة سردية ..تشكيلية ذات هوية مختلفة.. فجاءت قصصها زاخرة بكافة التفاصيل المبهرة من خطوط ..وتناغم لوني ..ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
أول ما استوقفني عند تصفح هذه المجموعة ، ما لمسته من مهارة الحركة في الانتقال بين مشاهد القصة عموما، أما مشهد الاستهلال فقد وجدته لوحة حافلة بالمؤثرات البصرية ، إذ تختاره القاصة بعناية شديدة ، وذلك لتهيئة القارئ للولوج إلى أحداث قصتها ، بما تحتويه تلك التهيئة من عناصر مبثوثة في مسرح الحدث ، وما يحيطها من سمات ، لتذكي انفعالات عاطفية مختلفة..هذا إلى جانب الرؤية الفنية السينمائية والحس التشكيلي الذي سيكشف لنا عن جانب آخر من عالم نجوى القصصي ..الى غير ذلك من الخصائص اللغوية والتقنية الفنية لدى القاصة نجوى العوفي..دعوني المح أولا الى مهارة الانتقال بين مشاهد القصة..ولناخذ القصة الأولى من المجموعة على سبيل المثال .. فالقصة (ولد حبي ميتا) مكونة من مشاهد رئيسية ينقسم فيها المشهد بدوره الى عدد من اللقطات.المشهد الأول وهو أيضا المشهد الاستهلالى: (مؤلم أن أتأمل غروب الشمس وأنا أرى هذا المخلوق الكبير يصارع من أجل البقاء..يرسل اشعته الباهتة في ارجاء الارض ..يلتمس العفو والصفح..يتشبث بالسماء وكأنه اخطبوط ، يرسل أذرعته الطويلة ليمسك المستحيل 2) المشهد يضج بالحزن الذي يدثر النفس وهي تعيش النهايات المؤلمة للأشياء ، والمتمثلة هنا في موت الضياء والنور ، رحيل الشمس عن الدنيا ..إيذانا بدخول الظلام وانهزام الألوان من كل التفاصيل ، وما يعقبه من تحرر وانفلات للخيال فيتحول المكان الى مسرح يعج بالأشباح والأرواح ..ظلام يمد جرانه ويتمطى بصلف وقسوة بما ينطوي عليه من الوحشة والسكون ..المكان في هذا النص هو القرية (الريف) ، وهنا المؤثر البصري ينهض بجلاء ووضوح فيما كانت تراقب غروب الشمس..(الأشجار تقف بيني وبينها ..تتمايل أغصانها3 ) .. والغروب هنا هو (المشهد الرئيسي) أما الأشجار المتمايلة فلقطة تضاف للمشهد ، الذي ينبت الحدث على ضفافه كعامل مهم في خلق التأثير النفسي الذي بدوره يرتفع بالنص ويكسبه تفاعل أعمق من قبل القارئ.. خلفية المشهد هنا قد أضيفت له بل وأصبحت عنصرا أساسيا ذات دلالة متجانسة مع المشهد نفسه.المشهد الثاني: فلاش باك ( أذكر كيف أصبح البيت خلية نحل من النساء ، هذه تغسل ، وتلك ترتب ، والكل يعمل ..إلا أنا ، أنظر إلى شمسي الغاربة بفرح 4) العبارة الأخيرة هي لقطة من لقطات المشهد وانتقال سريع بين الحركة الدائبة التي عمت المنزل وبين البطلة التي ترقب الغروب انتظارا لدنو الموعد ..المشهد الثالث : عودة للبطلة في مشهد يحكي تأزمها الشديد وهي هناك تراقب الغروب قائلة..(اليوم أيتها الشمس المتشبثة بالبقاء ، ابقي وأنا سأرحل مكانك ، فلم يعد لي بقاء هنا ، فقد ولد حبي ميتا 5) وهكذا تتوالى المشاهد الى نهاية القصة..في مزج بين الماضي والحاضر وسنعود للحديث عن قصة (ولد حبي ميتا ) في عرض مستقل. إننا نلمس لدى العوفي تمكنها من بناء المشهد المستوفي لعناصر التأثير البصرية والسمعية ،على حد سواء ، تماما كما هو في الفن السابع. ومن هنا نستطيع القول أن القاصة تختار عناصر اللقطة (المدخل) المشتملة على : المكان ، والزمان ، والموسيقا ـ خلفية المشهد ـ بدقة وحرفية ، انطلاقا من رؤية المخرج السينمائي المتمكن ..وكأن المُشاهدُ هو المستهدف أولا وليس القارئ ، لتسير معه في تناغم وانسجام .. فالموسيقا التصويرية تبرز بوضوح من خلال الجمل المسجوعة لتمثل اللحن على غرار: ( ..والكل يتناقل حكايتي معه.. يضيف ما يشاء..وينقص معنى الصفاء..ويتلهفون للمساء ..لتكون حكايتي حطب المدفأة ودفء الشتاء6) ، فيما نجد رتم الإيقاع يبرز جليا في قصر الجمل : (سهرت ..وحلمت..وأحببت 7) ، وهكذا بحسب النَّفَس المودع في الجمل قصرا أوطولا ، نعثر على الرتم الإيقاعي في الموسيقا التصويرية التي استخدمتها القاصة ، على مدار المجموعة بشكل ملفت ..النص الأول اتسم بالموسيقا الجنائزية ..في لغة تقوم على معاني الموت والرحيل ..فالشمس تجدها القاصة في لحظة ما بأنها ( ذلك القرص من النار ..يمتد كالشوارع المجنونة ..التي تفقدنا حبيبا وصديقا وجارا وتستسلم في النهاية لطبيعة الكون التي أرادها الله 8) في اشارة ماّ للفقد ..ولأن مشهد الغروب له دلالاته وإيحاءاته ، فقد استخدمه في القصة الثانية (حكاية حب مجنونة) كلوحة افتتاحية أيضا تنمو على مسرحها هذه الحكاية..وقد تجمع إلى الغروب ، لقطة الشروق ..فيأتي كثنائية مضطردة..يرمز للحلم والأمل الذي تعيشه كأخيلة فحسب ، ولا رصيد له من الواقع..ولتبقى حقيقة الحدث تستمد واقعها من مشهد الغروب ..تقول: ( كل العشاق يعشقون الغروب..يسكنهم لون الغروب..يحزنهم لون النهار..يبحثون عن المساء..عن لون الظلام ..ليختبئوا في عتمة لونه..هذا يشكو الألم والفراق..وهذا يبكي الوداع..9) ..المشهد نفسه في النص الأول..لكنها هنا لا تنتزع منه معاني الرحيل ، والخوف ، والوحشة، والوجوم ..بل ما يؤذن به من حلول الظلام ، وبما فيه من سكون ودعة ، ففيه تنام الحياة ، ويهدأ صخبها ، وضجيجها.. وتسكن حركتها.. ليبدأ ليل العشاق زمنهم المفضل دوما..ثم لاحظ المشهد التالي من (قاتل والورود) ما احتواه من المؤثرات البصرية : (ترفع تلك السجانة يدها الممتلئة ، لتودع رئيستها بتحية أفراد الشرطة ، لتخرج خلفها وتتركها وحيدة في غرفة باردة ، جافة من معنى الحياة ، لا يوجد بها إلا جدران قديمة ، مظلمة كظلمة الليل الحالك ، وفي إحدى زوايا الغرفة ، مكتب قديم رث ، يكاد يسقط من الحمولة التي عليه ، من ملفات متناثرة أوراقها ، وأكواب شاي فارغة ، إلاّ من أكياس ومناديل دست بداخلها ، وبقايا بسكويت متناثر على الأوراق وعلى أرضية الغرفة 10) هو مشهد الاستهلال الذي تنمو على اعتابه قصة (قاتل الورود) ..وتأمل الفوضى في تلك الغرفة ، حيث أضيفت تفاصيل الديكورهنا الى المشهد ذاته كما قلت آنفا ..ومن شأن ذلك أن يعتقه ويكرسه في ذهن المتلقي لخلق المزيد من التفاعل مع البطلة.السمة التراجيدية
ربما لأن هذه هي التجربة الأولى للقاصة نجوى العوفي فقد غلب عليها اسلوب المدرسة الكلاسيكية الواقعية..ذات النفس الطويل ، بعيدا عن الرمزية ..بل وظهر تأثرها الشديد بالمنفلوطي، والرافعي ،وحنا مينة ، وجماعة الرواد من تلك المدرسة..التي تعتمد على الشعرية التراجيدية (المأساة) اقرأ على سبيل المثال: (ابكِ أيتها السماء..فلتغسلي أرضك العطشى للدماء..لقد ماتت شهيدة الحب..لقد ذبل الياسمين ..وتفتت غصن الريحان 11) ..أما من حيث المنحى فقد اصطبغت نصوص المجموعة بالتراجيديا الدامعة انظر النصوص : ولد حبي ميتا ، انتحار لحظة فرح ، قاتل الورود ، مللت منك ، وترجل الفارس ، الحلم الذي تحقق ، لا تقتلوا فينا الأمل ، اليوم ليس يومي ، وردة الياسميين ، ولعل القارئ سيكتشف ذلك بسهولة مع أول مصافحة للمجموعة.القاصة التشكيلية..
عند تصحفك للمجموعة ، تكتشف أنك تقرأ لفنانة تشكيلية ، نعم هي كاتبة متمكنة ومبدعة في الرسم بالكلمات ..وإنما أعني هنا الرسم بالريشة والألوان .. بل إن القصة التي حملت عنوان المجموعة (جنون) هي قصة رسام يسرد معاناته واخفاقاته المتتالية لطبيب العيادة النفسية .. وحتما نحن نستطيع أن نتلمس بعض الجوانب الشخصية للمبدع من خلال نتاجه الفكري فنعثر على تطلعاته واهتماماته ونستطيع سبرأغواره النفسية والعاطفية ، وبناء ملمح تقريبي عن ثقافاته ومعارفه التي يصدرعنها وما إلى ذلك..ولعله يأتي من يقول : هب أن القاصة نجوى العوفي لها اهتمام بالرسم.. فهل لذلك أهمية خاصة تنعكس بدورها على أعمالها القصصية ؟ فيكون الجواب : بالتأكيد فهذا يمنحنا مفتاحا له أهميتة في فهمنا ابداعها والاقتراب منه ، وتذوقه وتصنيفه..فعلى سبيل المثال نجد القاص السعودي خالد محمد الخضري في أغلب نصوصة يأسرنا بتقنية الحوار السلس مما يبعد شبح الاضطهاد عن شخوص قصصه فيدعها تعبر عن نفسها بحرية تامة ..نعم هو من يحركها في النهاية .. إن مرد ذلك في نظري ، كونه انطلق من خلفية مسرحية ـ أعلمها عنه منذ سن مبكرة ـ أكسبته تلك المهارة ..وقد تكون له تجربة لاحقة في كتابة النص المسرحي والروائي..ولندرك أن كافة الفنون التطبيقية والنظرية مهارات تجري في سواقي متعددة لتشكل نهرالإبداع وترفده..وكلما أتقن المبدع فنونا مختلفة كان أكثر اقتدارا وتأثيرا..في نص (جنون) على سبيل المثال نلمس الصورة المخزونة للرسام في ذاكرة الراوي ـ طبيب العيادة النفسية ـ حيث يقول: (أعتقد أن الرسام يمتلك عالما جميلا ، يريحه هذا العالم من الضغوط التي تواجه غيره ..إنه لا يعاني من الكبت أوالقلق الذي يحدث لمعظم رواد عيادتي لأنه يتنفس من خلاله 12) ..ثم يبدأ الرسام في سرد معاناته ويبدأ يفضض للطبيب الذي يصغي له بتركيز شديد فتأتي عباراته على غرار: ( كل يوم أنتقل عبر الألوان إلى مسافات أبعد من حدود الواقع ..شعرت بالمتعة والسعادة..فعندما يتحول المستحيل إلى لوحة ، أتفنن في وضع خطوطها وألوانها 13)...ونحو (عندما أرسم يادكتور ..أشعر أنني أملك العالم 14)...(جعلتني الألوان سيدا أتخيل ما أشاء 15) ...( أتصدق أنني كنت أرسم لوحة احترت بين لون الأصفر والبرتقالي لألون الشمس، ناديتها...الخ 16)..وهكذا على مدار أربع صفحات استغرقتها قصة جنون نجدها تضج بلغة الخطوط والألوان..كذلك الحال في قصة (انتحار لحظة فرح ) حيث تطل علاقة التداعي بين خطوط حياتنا ، وخطوط الريشة في يد الرسام..تقول على لسان بطلة القصة : (عندما نحب ، تموج الألوان بين أيدينا ..ليصبح الكون لوحة مجنونة ..لرسام عاشق ، يمزج جميع الألوان ، لتفوز لوحته بالجوائز ، ويقف الجميع ليصفق لهذا الإبداع الفني النادر..الذي لا يستطيع أحد وصفه ، حتى من داعب اللوحة البيضاء بفرشاة ألوانه المتعددة 17) وفي نفس القصة تتحول مخزونات الذاكرة الى معرض فني للوحات تشكيلية ..تقول البطلة نفسها : (وأبحث في مخيلتي عن اللوحة المجنونة ، لأدرس تفاصيلها وأموج بين ألوانها لتسكنني خطوط وجهك الجميل 18). قصة أخرى تحت عنوان (لون الثقة ) نجدها في الأصل محاولة لقراءة لوحة زيتية لم تكتمل بعد ...ملخصا أن فتاة (بطلة القصة) تزور صديقتها الرسامة وقد حولت غرفتها إلى معرض تشكيلي فتبدأ في شرح بعض لوحاتها ، لكنها... (تذكرها أنها لا تفقه في فن الرسم شيئا ، ولا يغريها هذا العالم بتعدد ألوانه وجراءة خطوطه وجمال لوحاته حتى الفرشاة ، هي لا تعرف كيف تستخدما 19)..وبعد هذا الاعتراف من قبل البطلة لا تلبث أن يتغير الحال فتلج باستغراق في عمق اللوحة المثبتة على الحامل امامها في محاولة لاستقراء مدلول الألوان ..دعوني اختار لكم فيما يلي مقاطع من قصة ( لون الثقة) على سبيل الاستشهاد فبالاضافة الى المقطع السابق نستعرض: 1 ـ (تتأمل اللوحة، ألوانها البديعة ، وخطوطها الساحرة ، إنها تداعب شيئا ما بداخلها ، كأنها تعرف هذه اللوحة ، أو أنها تحكي عن شيء لم تستطع فهمه ، تنظر اليها بشموخ امرأة بدوية ، جالت الصحارى ، وذاقت العذاب )..2 ـ (تبتسم وهي تتأمل ذلك اللون الأحمر ، الذي سقط كقطرة ماء من أعلى اللوحة إلى منتصفها ليحمل تجاعيد قريبة من تجاعيد شفتيها ..)3ـ (حين رأت جراءة اللون الأصفر يكتسح الجانب الأيمن من اللوحة ، ويمتد في خيوط رفيعة ليلامس اللون الأزرق..)4ـ (ذلك اللون الأبيض الذي يشكل البدر الصغير القابع في الزاوية السرى أعلى اللوحة ,,يذكرها..)5ـ (لتجد نظراتها تتركز على اللون البرتقالي الممزوج بالحمرة وحوله هالة من اللون الأصفر الشبيه بلون الغروب ..إنه لون التحدي 19).لون الثقة..قصة تتحول فيها البطلة الى قارئة للدلالات اللونية وقد كانت تعتقد أنها لا تحسن ذلك في اقرارها المسبق ولكنها تنجح عندما تركتها صديقتها لتحضر لها شيئا تشربه..وفي هذه الأثناء ومن خلال اللوحة الزيتية تقرأ لنا سيرتها الذاتية مابين فرح وترح وتفاصيل حياة بين مد جزر ..وانتصار وهزيمة..وتتصاعد وتيرة الانفعال حتى تذرف الدموع. على هذا النحو نستطيع القول إن نجوى العوفي نقلت لوحاتها الى قصص رسمتها باستخدام عنصر اللغة ..فنجحت بامتياز وبراعة في تقديم تجربة سردية ..تشكيلية ذات هوية مختلفة.. فجاءت قصصها زاخرة بكافة التفاصيل المبهرة من خطوط ..وتناغم لوني ..ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــ
0 التعليقات:
إرسال تعليق