ثقافة الماء في فيفاء
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
لقد اختار أجدادنا الأوائل، العيش في ذلك الجبل الصخري المنحدر، المعروف بجبل فيفا، لما توفره لهم التضاريس الوعرة من الأمن والحماية..رغم شح مياهه الجوفية وندرتها، إلى الحد الذي يجعل من رحلة البحث عن قطرة الماء مغامرة حاشدة بالمشقة والضنك.
ذلك الفقر، وتلك الخصاصة المائية، أدركها سكان الجبل منذ أن وطأته أقدامهم، وأصبح واقعا لا يمكن التغلب عليه ، إلا باستيعابه، وفق ثقافة خاصة، مكنتهم من إحراز نجاح نلمسه بجلاء عند تفحصنا الجبل، الذي يبدو لنا معمورا من قاعدته إلى قمته بمدرجات الزراعة.
وللفيفاء في معاجم اللغة تعريفات متعددة أوجزها الشيخ ياقوت الحموي في معجم البلدان ومنها : الأرض البعيدة عن الماء.
إنه تعريف يتطابق تماما مع حال الماء في فيفا، ومن خلاله ندرك لماذا أطلقت عليه هذه التسمية.
وإذا كانت عملية استنباط الماء من الصخور الصلدة، والصدوع العميقة، مهمة يتصدى لها الرجل، فإن عملية جلبه من مضانه عبر الأودية السحيقة، والشعاب النائية، تقع على عاتق المرأة، حيث لا يشكل خروجها من حدود الجبل في أزمنة القحط والجفاف؛ أي مخاطر على حياتها، نظرا لاعراف الفتن والحروب؛ عند القبائل العربية التي تجعل المرأة عنصرا محايدا؛ وغير مستهدف على الإطلاق, ولهذا كانت المرأة الفيفية في أزمنة القحط تقوم بجلبه في رحلة تستغرق يوما أو بعض يوم، من الأودية المحيطة بالجبل، وأشهرها ضمد وجورا..وسيلتها لذلك؛ قربة من جلد الماعز دُبغت وأُعدت بمهارة لهذا الغرض، يتراوح وزنها بين أربعين وخمسين كيلو جراما عندما تكون مملوءة بالماء، وتحملها بشنقين على ظهرها، ثم تسير مترنحة، ومنحنية للأمام تحت وطأة هذا الحمل الثقيل من الماء.
ورحم الله (غرسة) أم أحمد التي انطلقت قبل بواكير الضوء وملأت قربتها من وادي الغمر..وقفلت راجعة حتى مكان يعرف بـ (لحج الهامة) في معية عدد كبير من الواردات، اللائي طلبت منهن أن يتقدّمنها نظرا لبطء سيرها..إلا واحدة أصرت أن تبقى لمرافقتها..فما كان من غرسة إلا أن نبذت الغرب عن كاهلها، وانحرفت إلى أكمة بجانب الطريق .. ووضعت مولودها البكر أحمد..ولفته في مِحنَّتها، وواصلت السير باتجاه منزلها فيما تطوعت صاحبتها بحمل القربة.
قصص كثيرة تروى من هذا القبيل، تؤكد المعاناة التي تجدها المرأة من أجل البحث عن الماء.. فإذن هذه القربة الوحيدة التي عرفنا مقدار ما تحتويه من الماء.. لا بد أن تفي باستهلاك الأسرة يوما كاملا، إضافة للحصة المخصصة لشرب ثلاث أبقار في المتوسط، كل يومين على الأقل.. وهذا المعدل من الاستهلاك يكون في الأحوال العادية..وقد يتراجع إلى مقدار أقل.
أما مع ازدياد هطول الأمطار، ووفرة المياه فإن الاستهلاك يرتفع إلى قربتين أوثلاث، حيث تتحول شعاب الجبل إلى المناهل تجود بالمياه.
إذن فمتوسط الاستهلاك لا يزيد عن أربعين لترا في اليوم ..ويصفونه بـ التنواء، وهم يتونون : أي يتأنون، ويتصرفون في الماء بروية وأناة.
أمة حياتها على هذا النحو من التهديد بنضوب الماء، والهجرة والارتحال حين يتفاقم الظمأ، ويشتد القحط، بما ينطوي عليه الرحيل من غصص حين مغادرة ملاعب الصبا..ومدرجات الزراعة التي سقيت بالعرق وأفنيت في صياغتها وتهذيبها الأعمار.. كل ذلك كان مدعاة لافراز ثقافة تؤطر الماء وتمتزج به، وتجعل منه أهزوجة يترنمون بها في كل مناسبة، وشأن من شؤونهم العملية المتعددة كتضريس الحقل استعدادا للموسم الزاعي، تسمعهم يهزملون:
يالله اليوم تروينا بسيل..من سيولٍ تقع فاول سهيلٍ.
وإذا لفت اميوم، واتقوى امحانب وامحيم، واستاقن امقنوق، وانهمرت المغزرات،
(ثم صاح المولش) حمدناك ياراعي الردات..واستبشروا بوفرة الغذاء والسعة في الرزق.
ثم أنشدوا بإيقاع سريع، وهم يتهيأون لمغادرة الحقل:
هللونا من وشيله .. كل شعبٍ جاب سيله
ومن خصائص الجبل أن جلدته الطيينية التي تكسو صخرته رقيقة جدا، فلا تحتفظ بالماء إلا أياما، كما أنها لا تقوى على التماسك عند تشبعها به، إذ تنهار وتتخذ سبيلها إلى معاميل تهامة، فتمطر فيفا لتمرع زهوب ضمد، وأهلها يقولون إنها تمنح الديار الأخرى حصتها من الماء!!.
(فصل) اصطياد الماء .
لقد حاولوا أن يستفيدوا من مياه المطر إلى أقصى حد، مهما كانت زهيدة تلك القطرات المنسكبة من السماء، وعمدوا إلى صفحات الصخور المنحدرة، فنحتوا الكريان في أصولها، لاصطياد الماء الذي يسارعون بجمعه مباشرة عقب توقف المطر، نظرا لمقداره الزهيد الذي لا يتجاوز اللترات..وبهذا نستطيع القول بأن الكريان هي الوسيلة الأقدم والأنجع، فحصادها مضمون من أي (وشيلة) واهنة أو (هازع) مباغت في العشايا الصيفية.
وهناك البرك المنحوتة في الصخور الرملية، بشكلها المستدير، ذات عمق يتراوح من مترين إلى ثلاثة بقطر قد يصل إلى متر ونصف في أغلب الأحوال، وهذه البرك يمكنها أن تحتفظ بالماء مدة شهر كامل، ولا سيما في فصل الشتاء ..وهو عندهم الربيع، حيث يكون التبخر في أدنى مستوياته في هذا الفصل من السنة.
ثم البرك المقضوضة بالكلس المعالج المعروف بالنورة..ولعل أول بركة بنيت في فيفا تلك المعروفة محليا بـ (بركة الترك)..ويرجع بناؤها إلى أواخر القرن التاسع الهجري، حيث تم تشييدها من قبل الحامية التركية بجانب حصن العبسية الذي اتخذه الأتراك مقرا لهم أيام الخلافة العثمانية، نظرا لموقعه الاستراتيجي في أعلى نقطة من جبل فيفاء.
ومهما كانت هذه الطريقة في اصطياد مياه المطر وخزنه ناجعة إلا أن كلفتها الباهظة جعلتها محدودة الانتشار، بحيث لم يتجاوز عددها أصابع اليدين على امتداد الجبل طولا وعرضا، حتى ما بعد 1965م حينما إنشئت طريق الجمال، ويطلقون عليها (الجمالية)..بواسطة الدواب وصلت مادة الأسمنت إلى الجبل فانتشرت البرك الأسمنتية، فشيد سكان الجبل من سنة1970إلى سنة 1979م، أكثر من عشرآلاف بركة لخزن مياه المطر.
استنباط الماء .
ـــــــــــــــــــــــــ
إن كمية الماء المتدفقة من باطن الأرض، وإيغالها في العمق أو العكس، أيقونة تتحكم في تصنيفات الموارد المائية في أنحاء الجبل..وتأتي الآبار في مقدمتها شهرة لما تمتاز به من ثراء مائي يمتد عطاؤه فترة زمنية أطول مما توفره المصادر الأخرى، ولا يعني أنها قد تسلم من النضوب عند انحباس المطر أعواما متعاقبة.
ومن آبار فيفا..بير النحاسي.. والعلايج، والكهلة، وحماس، وآل غالب، وغيرها الخ الخ.
ويأتي في المرتبة الثانية في هذه التصنيفات ما يعرف بـ ( الفقي) مفردها (فقوة) .. وماؤها في نقطة أقرب من سطح الأرض إلا أنه يستلزم بناءً فتبدو فوهتها على شاكلة البئر في الغالب ويتراح عمقها من قامتين إلى خمس..وتحتوي في بنائها على درج يمكن الوراد من الوصول إلى قعر الفقوة عند انحسار الماء في مواسم الجفاف، ومن أشهر الفقي ..فقوة الغمر ، والمنهم، وريسان، والضحي، والمعرف، وجذيمة.
وإذا كان البئر والفقوة يقومان على مسطح متسع نسبيا فإن المعين على خلاف ذلك تماما، ويكون في المعتاد مبنيا في أساس المدرج الزراعي، على هيئة نافذة أو بوابة ضيقة (انظر الصورة). وتنتشر المعاين في فيفا، وأهما الغمر، والسيالة، والشواحط، والشلة، والصوملة، والفاحم، وغيرها.
أما الحياد فمختلفة عن كل ما سبق من تصنيفات المناهل ومضان الماء في فيفا..إذ تتكون الحياد بفعل السيل أو الشلالات المنحدرة من الوديان في السنوات الغنية بالأمطار، ولا يتدخل الإنسان في إعدادها أوتهذيبها، وقد تبقى الحياد ثرة بالماء على مدار السنة يغذيها الغيل ..كحياد المقندرة شرق فيفا..وحياد العصم في وادي الغمر، ومن الأودية التي تكثر بها الحيود وادي الربوع، ووادي السربة، ووادي القصبة.
أعراف الماء في الشعر
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول الشاعر يحيى محمد..
قني منشط بازلي عل صافي الغيول..يشرب ويحلز قبل ورد المال والحلول
يروح واها قانع وامقلب قد روي.
وعلى هذا النحو الذي بينه الشاعر .. فإن الشرب من نصيب صاحب المال أولا، ثم مازاد عن حاجته فمن نصيب السكان المحيطين بالماء، وما فاض فمن نصيب من رغبه من الناس.
من الأهازيج المختلفة التي تضج بالماء.
قول الشاعر : يالله تسقينا الهمال ..من سارية تقوي المخال..على قصي وادي وعال
حيث امبدو متوالية.
وآخر : يالله اليوم تسقينا بسيل..من سيول تقع فاول سهيل
وآخر:
سرى الليلِ سرى الليلِ..على فيفا سرى البراق
سقى الله بقعة امسندر ...تعجل بالقنياتِ
الماء ومكوناته في الشعر
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الماء رمز الخير....
قال الشاعر يحيى بن محمد:
يامرحبا قوم العبيدي لو قهم ولام ........ من شارخ الدفرة حك امجوة ولـ امزام
وامسربه وامدغر
وباقي احفاف عزيزٍ وا مجللِ
ترحيب يوم ماطرو من يامنٍ وشام.....ويروي الدنيا خلاف امدور وامحطام
واتنبت الخضر
وايفرح البدوي ويرزق كل عاملِ ( هنا أيضا حالة غريبة من تكرر العطف بالواوإحدى عشرة مرة وهو ما نجده في المسند تماما )
ورمز الحرب:
نحزب فيا باهي الشهود ...... قد وضعو زندو وامانو
فيهُ لعيق النار
يعزي قريبٍ والبعيد( يحيى بن جابر الحكمي)
فرد عليه يحيى بن محمد قائلا:
خللو لليقاي امحدود ...... في يوم تتراكم غيانو
واحذرتك الموخار
أيلا قها يوم الوعيد..
ورمز للقوة والمنعة :
آل امغامر راعدٍ بين القنيف.... مبيات وآل امودحي واال امشرف
وشيخنا يحيى نقول أبو علي
والكثرة :
ألا يمرحبا ياكل ضوال..رفيق واجنبية
تراحيب بعدة خط القلام..وهلات المطورا.
صورة الماء عند الشاعرأسعد زايد:
طلبت الله ذا برجو تكاثر.... وذاهب الما على البيدا تناثر
وشرب الطين منه وارزق اهلوا
والفرح والابتهاج....
قال يحيى بن محمد:
يامرحبا واهلا تراحيب على الذهوب..ترحيبة البيدا بيوم السيل والشروب
واتسمع الرجال
من لسن عراف ولا بو كلمة زافقة
والبشر والسعد ..
له أيضا:
يقول ابوعلي بدع في حالي النطوق..واطرح سلام الله على جميع تالخلوق
قدها مفاتيح الخبر وول مذاهبو
تسليم يوم حاكد واماطرو يسوق.....شل امشجر من مودية بامشجن وامعروق
سيلو يبث العقم والمعمال يخربو
وله أيضا وهو يصف الحميمية المودعة في التحية التي ألقوها على الحشود المستقبلة :
واطرح سلام الله على الهود في الوصول.. تسليمة تبلغ بنا مدينة الرسول
والبيت والحرم
تسلي قلوب الناس والشيطان تقرعو
تسليمة منها الحيا والخير والقبول.. مهل تهواي المطر من رادم الثمول
والرعد لا زكم
يفرح بها العمال يتغانى بمزرعو.
تشبيه المرأة بعين الماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال شاعر فيفي:
عاينة في ضمد وعاينة في دفا ما مثلهن... بي ظماي لهن
وردونا على احدات امعواين.
الطقوس المتعلقة بالماء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1ـ إنهم لا يشيرون بأصابعهم إلى شلالات المطر المنسكبة مطلقا..ويسمونها ( السبول) أو (النوّة) بل يقرأون الأدعية ويتلون الصلوات عند رؤيتها ..وحين يضطرون إلى الإشارة ناحيتها فبإيماءة من الوجه، دون أن يرفعوا باتجاهها يدا .. معتقدين بأن الإشارة إليها قد تكون محملة بالنحس والشرور والعين والحسد وسوء الطالع، مما سيتسبب في انكسارها وتقهقرها.
ولقد كانت جدتي لأبي رحمها الله تنتهرني عندما أشير باتجاه المطر قائلة : بسم الله عليها دعها تنهمر يا ولدي..فستجعلها تجفل وتقهقر خوفا.
2ـ وفي مناسبة أخرى فإنهم يمنعون ( المهد) من رؤية عين الماء أثناء العمل على استخراجها.. والمقصود بالمهد : الفتى الذي لم يختن بعد، وهو السبب الذي حرمني من مشاهدة العمال وهم يحفرون بئر وادي الرواح سنة 1969م بحجة أن المكان يعج بالأشباح التي تختطف الأولاد الصغار وتلقيهم في أقاصي الأرض وأبعدوني نهائيا عن المكان رغم أن والدي كان من ضمنهم فلم أفلح في اعتلاء كومة النزح المبلول المستخرج من الأعماق بهدف اللهو..
3ـ وعندما يعثرون على الماء في باطن الأرض فإنهم يقومون بتغطيته بإحكام، لايمكن رؤيته مدة أربعين يوما .. ويعرف هذا الطقس بـ (القصية) من الإقصاء والمنع.
4ـ يمنعون الاستضاءة المباشرة في مهل الماء وتشمل كافة القوالب التي تعتمد النار كمصدر للضوء..من جذوة وقنديل ومسرجة زيت وخلافه. وما زلت أذكر كيف كانت السرج تترك بعيدا عن ينابيع الغمر سنين الجفاف التي ضربت فيفا علمي 68و69م دون أن أعرف السبب إلا بعد ذلك بحين .
الماء في الحكاية الشعبية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إن تفجر العيون من باطن الأرض محكوم بما يشبه المعجزات والكرامات، ووفق قصص الماء فإنه لم يتحقق إلا على أيدي أولئك الذين عرفوا بالصلاح والتقوى وامتازوا بالإيثار والكرم، وهو ما حدث تماما في قصة مناهل وادي الغمر، الأشهر في موارد فيفاء.
وملخص القصة تقول : بأن رجلا يقطن بيت المغرف غرب شمال غرب فيفا، طرق بابه غريب عابر ذات سنة مكفهرة.. فرحب به وأبدى احتفاءً كبيرا، وعمد إلى الوعاء الخشبي وأفرغ نصف المحتوى من الماء في دلة يسمونها (جمنة) وأشعل النار وأعد القهوة، ثم قدمها للضيف، ولم ينتظر طويلا حتى نضج الرغيف الوحيد ليقدمه معتذرا عن تقصيره الذي يعلم الله سببه، وعندما قدر بأن الضيف قد انتهى من تناول العشاء عاد إليه، ليجده منزعجا من البكاء المتواصل لذلك الطفل المودع في الهندول، حاول الرجل تهدئته بالأرجحة لكن ذلك لم يغن شيئا..وسأله عن والدة الطفل؟ ..فقص عليه معاناتهم في الحصول على الماء..ومن خلال عدد من التساؤلات علم الضيف بأن هذا الرضيع يوشك أن يهلك جوعا وعطشا حيث غادرته تركته أمه صباحا إلى وادي جوراى لانتظار دورها لملء قربتها.. وأدرك أن مابحوزنهم من ماء قد نفد حين ذهب نصفه لإعداد القهوة والنصف الآخر لإعداد الرغيف..ولأجل أن يتأكد من صحة استنتاجاته فقد طلب من الأب أن يسقي طفله، واندهش لعدم انصياع الرجل، وهذه الأثناء تصل الأم ..وفيما بعد كانت تروي لزوجها كيف انطوت لها الأرض وكيف اجتمع انطلاقها من وادي جورا ووصولها إلى دارها لتحتضن وليدها الذي شارف على الهلاك فيما يشبه المعجزة.
ومع بواكير الصبح كان الغريب يطلب من مضيفه أن يتبعه ليعين له حدود ماله، وهكذا كان..فأخذ يتأمل المكان ثم التقت إلى الرجل وهو يقول سبحان الله.. ألديك هذا النهر الهادر من الماء وتكلف زوجتك السفر بحثا عنه؟..ثم وضع له خمس علامات طالبا منه أن يحرر الماء الذي سيروي فيفاء وما جاورها، فكانت المناهل الخمسة لوادي الغمر.. أما الضيف الغريب فلم يكن إلا الرجل الصالح ....الخِضر.
وفي حكاية أخرى بطلتها امرأة صالحة قيل بأنها رفضت الزواج إلا من شخص تحيط داره ينابيع الماء..فخطبها ابن آل مارحة زعيم قبيلة آل عبدل مدعيا بأن المياه تتدفق من شرق داره ومن غربها..فقبلت به زوجاحين تحقق شرطها، لتكتشف لاحقا بأنها كانت ضحية المجاز، وأن الماء الوفير شرقي الدار وغربه، لم يكن يقصد به سوى عيون جورا وضمد، كون داره تعلو قمة جبل اللعثة المطلة على هذين الواديين العظيمين، فإذن لقد وجدت هذه المرأة نفسها في أبعد نقطة عن الماء، فابتهلت وتضرعت ليغيثها الله بمنهل اللعثة، فكان انبجاس الماء من أعلى قمة في الجبل أمرا خارقا للعادة..فظل هذا النبع سخيا بالماء إلى أن توفيت ليجف تماما..وما زال معروفا إلى يومنا هذا.
أما حكاية صاحب اليسير فتقول بأنه أدرك ليلة القدر فتمنى أغلى غال وأطيب عيشة..وعاد إلى سريره الخشبي وتوسد أريكة الجلد والتحف إزاره المرقع، في انتظار الصبح الذي سينجلي عن كنوز من الذهب والفضة والقصور المنيفة، والحياة المخملية والعيش الرغيد، ثم أسلم جفنه للرقاد الذي لم يمتد إلى انبلاج أسارير الصبح، حيث استيقظ سحرا وقد حاصرته المياه وتحول كوخه الحجري الضيق إلى فوهة شلال هادر، فانتزع نفسه من هذا الطوفان وفتح الباب بمشقة واندفع خارجا يستطلع الأمر، وكان عليه أن يراجع امنيته التي أودعها ليلة القدر، لتأكد بأن أغلى غال ما هو الا الماء، ومع طلوع الشمس عاد إلى الكوخ لجمع ما تبقى من متاع معلق على الجدار..واندهش لوجود مائدة موضوعة على دكة الرحا فتناولها وعاد أدراجه ليكتشف أيضا بأن أطيب عيشة هي العصيدة باللبن، وانكفأ يأكل حتى امتلأ بطنه وغادر المكان ليقيم كوخا في الجوار.
ومياه اليسير على مقربة من وادي الغمر وماتزال بقايا من بناء الكوخ المتهدم ماثلة حول النبع.
أما قصة امحم عقيصاء وما احتوته من فنتازيا تدور في فلك الماء، نوجزها فيما يتصل بموضوعنا.. فقد ذهب يفتش عن شقيقه المفقود وجعل لزوجته مدة زمنية مقدارها سبع سنوات عند انقضائها تستطيع أن تعده في الهالكين.. ولها أن تتزوج إن رغبت..وهكذا ذهب إلى أقصى الأرض في قصة طويلة ومغامرة حافلة، وبانقضاء اليوم الأخير من السنوات السبع، لجأ إلى الملاك المعني بتوزيع الثمل وشرح له قصته المثيرة..طالبا من هذا الملاك الطيب أن يحمله على السحابة المتجهة إلى قزاعة من فيفا..متى حان نصيبها من المطر.. ولحسن حظ العقيصاء فقد أشار الملاك إلى قطعة بحجم نواة التمر، قائلا تلك ثملة قزاعة هذا المساء.. فامتقع لون الرجل وطلب من الملاك أن يزيد المقدار كون قزاعة أرضا طينية ومسطحاتها متسعة وتحتاج الى الشرب والإرتواء، كي تؤتي ثمارها، فأضاف مقدار النصف من الكمية الأولى، معتذرا إلى العقيصاء عن أي خراب سيجلبه طمعه، وعدم تقديره لحجم هذا العطاء المائي. وهكذا استقل الثملة إلى موطنه، وهبط وفق تعليمات الملاك والتجأ إلى معين قزاعة واستكن في بنائه منتظرا انتهاء سقوط المطر..ولكن دون فائدة ..وحين رأى بوادر الكارثة راح يدعو الله أن يحذف توصية الملاك.. قئلا : يا الله شل ام زيدة.. الغريب أنه حضر فرح زوجته التي عرفته بعلامة خاصة وتم صرف المدعوين بما فيهم العريس وتحولت المناسبة إلى احتفاء بعودته الميمونة.
الاستمطار
ــــــــــــــــ
ما زال الاستمطارفي فيفا يشكل عنوانا مثيرا في التراث القصصي، إلى درجة القول بأن آخر حفلة استمطارية تقام في رأس الكدرة أوقمة الشّباب، لم يمض عليها سوى أعوام يسيرة، رغم كونها واحدة من الطقوس الجاهلية المغرقة في الشرك بالله عز وجل.
قال الرواة: إذا اشتد القحط وانحبس الغيث، عمد الناس إلى الكاهن يستفتونه في أمرهم، فيأمر باقتياد ثور أسود رباع إلى قمة من قمم الجبل، فينحرونه جاعلين دمه في وجرة مكينة لا يتسرب منه شيء أو يفقد من كميته أدنى اليسير، وهكذا يتم نحره دون أن يذكر اسم الله عليه.. وربما كانت هناك طقوس أخرى غائبة، لكنهم في النهاية يقتسمون لحمه، ويعودون مسرعين لبيوتهم، إلا أن المطر قد يدركهم قبل أن يصلوا في الغالب.
ووفقا لما بلغني عن الاستمطار والمستمطرين، فإن أواخر القرن الثالث عشر الهجري أو ربما بدايات الرابع عشر قد شهد آخر هذه الطقوس الجاهلية للاستمطار.
ويتناقل الناس رواية تؤكد بأن الكتلة الصخرية الموجودة في السرب قد سقطت من قمة الكدرة، ولم تكن سوى صخرتهم التي كانوا ينحرون فوقها ويستمطرون..لقد جرفتها غضبة إلاهية وألقت بها في مكان سحيق، وصاحب ذلك دمار شديد وانهيارات جرفت مدرجاتهم الزراعية فظهرت من تحتها اصخرة فيفا الصماء تلتمع.
الخاتمة
ــــــــــــ
إنه الماء في فيفا.. ملهب الخيال، وباعث الأمل والرجاء، والمحرض على الفعل الخلاق, وقصة مكتظة بالسحر والجمال، وأغنية يتردد صداها في جنبات الغمر والفاحم والصوملة والشلة أشهر موارد الجبل وأغدقها وأصفاها، الحبل السري الذي يهب الحياة لإنسانها والشريان الذي يضخ الدماء في جسدها منذ آلاف السنين، حتى دخلت سنة 1982م لتطوى آخر صفحة من ذلك السفر العجيب، وتبدأ فصلا جديدا من قصة أخرى ذات ثقافة مختلفة تماما ..وإلى ما شاء الله.
ــــــــــ
**براق شربنا ماك..ورعينا عفاك..وربي كفانا شرك وبلاك.
**عرض تسجيلي لثقافة الماء وليست دراسة نقدية
**(فصل)المفردات التي تلف المطر في اللسان الجبلي:
الحيا..ماء.الخيرن، المعينة، الوهب، السيل، الرثام،الماطر، الوشيلة، امرشاش، المشربة، الهثعة، المغزرات، السبول، الشيف، الغوادي، امسواري، القطرة، الحاشر، الهازع، المكرية،
0 التعليقات:
إرسال تعليق