قال تعالى : ( وكيف تصبر على ما لم تحط به خُبْرا) الكهف آية 68.
وبما أننا في صدد الخبر فلا يمكننا في عجالة كهذه أن نلم به من حيث أهميته للإنسان أيا كان دوره في الحياة، وموقعه، وسنعتبر ذلك أمرا بديهيا .. ومنذ نشأت الصحف إلى عصرنا الراهن، والخبر الصحفي يشكل الركيزة الأولى في نشاطها، لذلك قيل بأن (الخبر خبز الصحافة ) أي أنه المادة الأساسية التي تتغذى عليها لتعيش، ولولاه لماتت.
منذ القرن الثامن عشر الميلادي على وجه الخصوص بدأ الخبر يتخذ شكلا متطورا وأُخْضِعَ للعديد من الضوابط، على يد أهل الصنعة، وفي مقدمتهم وكالات الأنباء، ليصل إلينا بصورته الراهنة، من المهنية، والحرفية، وبعض الحيادية.
لقد وجدت نفسها ـ وكالات الأنباء ـ في مأزق تسويقي، يتمثل في عدم استطاعتها إرضاء العملاء كافة، فالخبر الذي يتحدث عن كسبٍ حققته معارضة ما، لن ترضى عنه الحكومة القائمة، بمعنى أن صحف المعارضة هي من ستنشر الخبر وتبرزه، بينما تغفله الصحف الرسمية الناطقة بلسان تلك الحكومة، وكافة وسائل إعلامها، وبهذا تخسر الوكالة الإخبارية سوقا مهمة بالنسبة لها، ولمواجهة معضلة كهذه، قامت بتطوير مفاهيم الحياد في نقل الخبر الصحفي، والمتأمل لأخبار الوكالات كالفيز نيوز، واسو شيتد برس، ورويتر، على سبيل المثال؛ فإنه يجد الخبر خلوا من العبارات العاطفية وما يتعلق بالشحن النفسي، والتأثير الوجداني، وهو الأسلوب الأمثل في نقل الخبر، ومن شأنه أن يكون مقبولا على نطاق أوسع حتى بين الخصوم.
في إعلامنا المحلي مازال الخبر يراوح في منطقة العاطفة سواء من حيث الإنتاج أو التلقي، ولم يسلم من عبارات الشحن النفسي، والتأثير الوجداني، ولهذا نجد المقولة الشائعة : ( كلام جرايد ) ماتزال تجد رواجا في أوساطنا الاجتماعية، ومؤدى العبارة : أن ذلك الكلام مجرد أكاذيب وإثارة فارغة.
إن صناعة الخبر في معزل عن استصحاب المنهج الحديث يؤدي بالضرورة إلى انقسام القراء حول الخبر المنشور، بين الغضب والرضى، وبالمقدار الذي تحققه الصحيفة من كسب، فإنها تحقق مايوازيه خسارة، لتهرع مستنجدة بالمقولة الشهيرة : (رضى الناس غاية لا تدرك). وهنا سأورد مثالا للخبر الصحفي في حالتيه :
ولنبدأ بالخبر في صورته السلبية.
(1)
المانشيت :
أ. الفرعي: في حادثة مرورية مروعة : أسرة بكاملها تموت اختناقا داخل سيارة !!
ب. الرئيسي: استجابة سلحفائية للدفاع المدني، والازدحام شماعته الأزلية!
ج. النص : شهد شارع الأندروميدا ظهر اليوم حادثا مروعا راح ضحيته أفراد أسرة بكاملها، حينما فوجئ قائد المركبة من نوع فورد بشاحنة تبريد تعترض طريقه، ليصطدم بها وجها لوجه وينحشر تحت عجلاتها الأمامية، وعلى الفور قام أحد المواطنين بإبلاغ الدفاع المدني عند الواحدة ظهرا، فيما كانت الأم تحاول جاهدة تخليص نفسها من بين ركام الحديد الذي يحاصرها في المقعد الأمامي، كان الزوج يعاني من غيبوبة تامة.. وفي المرتبة الخلفية، كانت فتاة دون العاشرة تصرخ من شدة الألم ناظرة بيأس في وجوه المحيطين علها تحظى بمساعدة، وهنا بدأ الدخان يتصاعد بكثافة ملحوظة، ولم تمض دقائق حتى اشتعلت النيران في العربة ، برغم المحاولات الفردية اليائسة لأخمادها، فامتدت ألسنة اللهب لتحول الأسرة إلى جثث متفحمة خلال دقائق رحمهم الله.
من جانبه أشار مدير الدفاعي المدني أن الحادث وقع في ساعات الذروة، إلا أن ذلك لم يكن عائقا دون القيام بمهامه على أكمل وجه، مبديا تأثره الشديد تجاه الأسرة المنكوبة وذويها داعيا لهم بالرحمة ، وشدد على أهمية الالتزام بالأنظمة المرورية وإجراءات السلامة حفاظا على الأرواح والممتلكات.
(2)
نفس الخبر ولكن في صورته الإيجابية
المانشيت:
أ. الفرعي :شارع الأندروميدا يشهد اصدام شاحنة بمركبة صغيرة . .
ب. الرئيسي :حادث مروري يسفر عن وفاة ثلاثة أشخاص من عائلة واحدة.
ج. النص : شهد شارع الأندروميدا ظهر اليوم حادثا مروريا أسفر عن وفاة ثلاثة أشخاص من أسرة واحدة، عندما اصطدمت مركبة من نوع فورد بشاحنة تبريد.
وعلى الفور بوشر الحاث من قبل الادارات المختصة في المرور، والدفاع المدني، والهلال الأحمر، حيث تم إخماد الحريق الذي نشب جراء تسرب الوقود من الفورد بعد اصطدامها.
من جانبه حذر مدير قسم السلامة المرورية من مغبة التهاون بأنظمة السير ، مشددا على أهمية الالتزام بالسرعات المحددة داخل المدن، وتوخي الحذر، مبديا أسفه الشديد لما نتج عن الحادث من وفيات.
إذن فالأنموذج رقم واحد يؤدي خدمة خبرية،وليس معاديا للدفاع المدني كما قد يتوهم البعض، لكنه ركز على عبارات الشحن والوصف التراجيدي، والعرب شعراء ينجذبون للعبارة الشعرية كما رأينا من سياق الخبر، وهذا من شأنه أن يغضب الدفاع المدني بوصفها جهة باشرت الحادث، لكنه سينال الرضى من قبل شريحة أخرى، تعتقد خطأ أن توجيه النقد للجهات الخدمية سيؤدي إلى شحذ هممها لتضاعف من عطائها مستقبلا .
الأنموذج رقم 2 فقد نقل الخبر بعبارة أقل شعرية، تبتعد عن الشحن وإذكاء العاطفة. وهذا الخبر لن يستوقف محبي الشعر، رغم وفائه بكل الشروط، والحقيقة أن الصحيفة ذات الخبر رقم 1 ستكون مبيعاتها أعلى نسبة من الصحيفة رقم 2 وهذا ما شجع التمادي في فرض اللغة العاطفية على الخبرالصحفي محليا وعربيا .. فماذا عن تكريس الوعي لدى المتلقي، بحيث يدعم الصناعة الإعلامية الواعية التي تتجه إلى الفكر لا إلى دغدغة العواطف وتقسيم المجتمع إلى أعداء وموالين عبر طرحها المثير؟.
ــــــــــ
0 التعليقات:
إرسال تعليق