حوار مع رماد شاعر
للشاعرة :طَفلة البان
أديبة فيفاء وشاعرتها إذا ما جعلنا من الشعر النسائي نتاجا مستقلا فهي كذلك دون منازع إلا من (آهات روح) ..أما إذا نظرنا لشعرها من خلال المشهد الشعري عموما فسنجدها تتفوق على كثير من الشعراء ولسنا هنا من أجل هذا الغرض تحديدا ..قصيدتها (حوار مع رماد شاعر) هي آخر نصوصها نشرا هنا..وقد استوقفتى بإلحاح.. ولطالما أجد ذلك في كل نصوصها سواء منها الشعرية أو النثرية ..وإذا ما انطلقنا مع قصيدتها فإننا ومن خلال تأملنا العنوان الذي اختارته الشاعرة ..كعتبة أولى للولوج إلى النص وجدناه يشكل نصا آخر ..فالحوار مع الرماد شيء لم نألفه من قبل ..لكنه ليس أي رماد إنه رماد شاعر .. شاعر محترق تماما وليس بين يدينا ما نحاوره سوى ذلك الرماد ..فإذن كيف سيكون؟ هنا قفز إلى ذهني الديوان الذى صدر للشاعر إبراهيم صعابي مؤخرا وقد كان عنوانه (شظايا الماء ) قلت له هذه قصيدة لوضمنتها الديوان لكانت أقصر نص شعري مر عليّ ..فضحك!!. وأقول : لطالما أكدت على مسألة العناوين ..ودخلت في نقاش طويل مع بعض الأخوة حول أهمية اختيار العنوان ..تذكرت هذا وأنا أقف مندهشا أمام هذا العنوان الذي وضع بعناية ، لكي يعبر عن رؤية فلسفية عميقة لصاحبة النص .حوار مع رماد شاعر قصيدة جاءت على (البحر الخفيف) ..وهذا البحر يحتوي على موسيقى داخلية فيها من اللوعة والأسى والتأمل والحكمة مافيها .. لنرى:ـ(جاءني صاحبي عذولاً يقولُ ؛؛؛كنت بالأمسِ شاعراً لا تزولُ)وهذه هي العتبة الثانية التي سنلج منها الى النص ..فبمجيء ذلك الصاحب العذول ..يشرع في تساؤلات عن سبب انطفاء جذوة الشعر لدى الشاعر ولماذا خبا صوته وغار معينه؟ ليستهلك كامل النص متسائلا إلا من البيت الأخير الذي تضمنته الإجابة كما سنبينه ..وبمراجعة النص نجدها قد تركت المجال أمام هذا العاذل ليطوف بين الأسباب التي قد تكون وراء نكوص الشاعر عن تحليقه السابق في فضاء الشعر..فلم تتدخل في الحوار كما نجده لدى الكثيرين في أبيات متقاربة ..في الحوار الشعري على غرار: قال.. فقلت.. أوقالت.. فقلت.. الى آخره ..وعدم تدخلها في الحوار أكسبه انسجاما في السرد وانسجاما ذهنيا لدى المتلقي الذي يجد في الحوارات القصيرة تشتيتا يعيقه عن استيعاب المقصود كما ينبغي بخلاف العبارات الطويلة.. هذا الإستهلال فيه من البراعة مايجعله مقبولا ..فقد حمل مسوغا لما جاء بعده.. دون تحريض أو إلزام ..ومن هذا المنطلق يمكننا القول بأنها كانت بارعة في الإستهلال..(لا تزولُ) إي لقد كنت أيها الشاعر كالحقيقة الثابة التي لا تتغير أوتتبدل ومن مرادفاتها ..لا تذهب ..لا تنمحي وغيره..السناد مضموم وقد أحكمت القافية في الشطرين كما جرت بذلك العادة عند كثير من الشعراء في حين أهمله البعض ..أما السناد المرفوع فلم تلتزمه في كامل النص كما شاهدنا.. تقول:(ثم ضاعت تلك القوافي وغارت ؛؛؛أين ما كان هل لديكَ حلولُ؟)(أين ماكان)من نشيدك بالأمس ؟..أين توارى ؟ و(هل لديك حلول) لكشف غموض هذه الحالة وحل تلك العقدة ، التي انتابتك فماتت قوافيك ..وغارت ينابيعك الفياضة ؟.. البيت من ثلاث جمل مستقلة أولها تلتفت إلى (ضياع تلك القوافي ونضوبها ) والثانية تتساءل عن الماضي بصفة عامة (أين ما كان؟) والثالثة تتجه للبحث عن الحلول ..في نسق تصاعدي متقن ..أوهو تداعي التداعيات إن صح التعبير ..وإذا كان هنا من ضعف يعتري البيت فا لمسؤول عنه كلمة (حلولُ) ..مهما كان الترادف بينه وبين الإجابات ..إلا أن الفرق يظل قائما..بعده قولها:(يا ترى هلْ نقمتَ يوماً لدار ٍ ؛؛؛ أنتَ فيها عما قليلُ تزولُ؟)المعنى هنا ملتبس الى حد ما بسبب (اللام) في كلمة (لدار) وهي لام الملكية ـ حرف جر ..ولعل المقصود نقمت (على دار) أو (من دار) أو ( بدار ) كلها تنسجم مع المعنى .. بخلاف (لدار) وهو ما يجعل المعنى يذهب في اتجاه مغايرتماما..غير أننا سنفترض ذلك ونُرجع السبب الى وعي العذول السائل الذي تصور أن عزوف الشاعر عن قول الشعر إنما هو لأجل الدنيا وتكون المشكلة في كلمة (نقمت) ولم تأت بمعني الركون أوالذوبان أو نحو ذلك ..قال الشاعر:ـ (نقمتَ على) من آسفوك بيوسف ............وما زلت ممن خالف الحق ناقعا (ابن حميدس)وقال آخر:إن تعتبن فلها العتبى وإن( نقمت........... مني) على غير ذنب فهي مقتدرة (ابن معصوم)وقال آخر :وما إن (نقمت بها) حالة..............سوى أن أقامت بها مُقلقَةوالشواهد كثيرة ,,,غير أن الراجح بأنه نقم بتلك الدار ما تحمله من صفة تنبئ برحيله وزواله الآتي بل هي (عما قليل تزول)..بعد لحظات يسيرة ..العجيب أن الأنسان ليس هو من يزول!! وكلمة تزول تكررت بنفس المعنى في بيتين من ثلاثة ..ويسمى نهكا للقافية عندما تستعير قافية بيت سابق لم تفصلك عنه من الأبيات عشرة على الأقل ..وكأنه يتعبها ويرهقها بالتكرار..ثم تقول:(هل كرهتَ المقام فيها وفيها ؛؛؛ظالمٌ أو منافقٌ أو جهولُ؟)سيأتي من يقول: إن الثغرة الواضحة هناهي كلمة (وفيها) في نهاية الشطر الأول لهذا البيت .. فقد سبقه (هل نقمت لدار ؟)ثم يردفه بالسؤال (هل كرهت المقام فيها) وتساؤلات هذا العذول محيرة بالفعل !! فإذا كان ينقم في البيت السابق لأنه محب لها فهو هنا كاره رغم مافيها من ظلم ونفاق وجهل ,,تناقض مريع لا يزيله إلا معرفتنا أن ذلك كله ما هو إلاّ (تجاهل العارف)..ولم يكن سوى السائل .. وكأن هذا الحشد من المهلكات التي تطفوعلى السطح وتحاصر الشاعر من كل ناحية كأنها ما سيجعله يتشبث بالحياة ويعاود تغريده ومرحه وانشراحه ..مفارقة جميلة ولا وجود لثغرة أو ما يحزنون ..(هل تبرمتَ أن تعيشَ بدنيا ؛؛؛ليس فيها من الجمالِ جميلُ؟)مرة أخرى وكأن هذا العذول المراوغ لا يرى من هذه الدنيا إلا وجهها البائس المكفهر وكأنه يحاصر الشاعر بواقع قاتم ..لايشجعه على الإنعتاق والتحرر من ربقة التشاؤم واليأس هذا العاذل لم يسمع (أيها الشاكي وما بك داء ....كن جميلا ترى الوجود جميلا ) ..(هل رمتكَ العيونُ يوماً بسهم ٍ ؛؛؛من تلقاهُ فهْو دوماً قتيلُ؟)هذا البيت لا يحتمل التأويل فهو يسأله عن سبب وجومه وانكفائه.. وهل علته هي العشق ؟ لغته ..موسيقاه وقد أخذت شكلا هارمونيكي انطلاقا من التساؤل مرورا بالمبررات وصولا الى النتائج كانت غاية في الإتقان الذي لا يحسنه الا من كانت له مثل موهبة شاعرتنا..و(تلقّاه) قصدت أنه تَعَرّضَ له وعَرَضَ نفسه عنوة هكذا أرادت من تلقّاه ..هل تركتَ الأنامُ ثم توجهتَ بعيداً يحلو هناك المقيل ُ؟أم أنه آثر العزلة والتأمل كما يفعل أهل التصوف أثناء الإنقطاع والإستغراق .. وقد تكون منعزلا وأنت بين الناس ودون أن تفارقهم جسدا ..( الأنام) جاءت مرفوعة وكان يجب فيها النصب ..(توجهت بعيدا) عبارة فيها ملمح من الشعر، وأعتقد أنها مهما ألحت على ذهنها فقد لا تجد عبارة تحمل مدلولا لما أرادته من معنى الإنعزال أو الإنفراد بعيدا عن القضايا المتعلقة بالحياة ..كعبارة (ثم توجهت ........
(هل تركتَ الأنامُ ثم توجهتَ بعيداً يحلو هناك المقيل ُ؟)أم أنه آثر العزلة والتأمل كما يفعل أهل التصوف أثناء الإنقطاع والإستغراق .. وقد تكون منعزلا وأنت بين الناس ودون أن تفارقهم جسدا ..( الأنام) جاءت مرفوعة وكان يجب فيها النصب ..(توجهت بعيدا) عبارة فيها ملمح من الشعر، وأعتقد أنها مهما ألحت على ذهنها فقد لا تجد عبارة تحمل مدلولا لما أرادته من معنى الإنعزال أو الإنفراد بعيدا عن القضايا المتعلقة بالحياة ..كعبارة (ثم توجهت بعيدا). وعبارة (يحلو هناك المقيل) ..جاءت تحت إلحاح القافية ولم تخدم المعنى تماما كما ينبغي .. وكان السؤال : (هل تركت الأنام)؟ والمقيل مكان الإحتماء من حر القائلة في نصف النهار..(هل تناجي ليالي الصيف إن هلَ هلالٌ أو لاحَ مِنه أفولُ؟)هنا بدأت أسئلة العاذل تتخذ منحى مغايرا عن ذي قبل..وكأنها التفاتة جديدة للحياة بعد اطراحه ذلك التشاؤم الذي غلف نظرته السابقة كما مر بنا ..نجد ذلك واضحا عند استعراض الفاظ البيت ,,(تناجي)+(الصيف)+ (هلال)..فالدلالة للفظة لـ(تناجي) تشير الى الحميمية ودفئ المشاعر ..و(للصيف) دلالاته الحسية والمعنوية ففيه تجود الأرض بخيراتها وتكتسي حلة مخضرة زاهية ..وفيه إشارة الى الدفئ ..والهلال..يشير الى بدايات الأشياء وولادتها ..وجعل المناجاة لليل بسكونه وهدأته ..لا لوحشته وسواده لحاك .. هذه الإسقاطات مجتمعة تدل على حياة متناغمة ,,لكن مهلا إنما جعل المناجاة في الليالي الصيفية مرهونة بالهلال في حالتي الطلوع والمغيب ..فإذن هناك ترقب وانتظار !! فلا وجود للتناغم والإنسجام النفسي الذي أوشك أن يلج إالينا عبر ذلك الحشد من الألفاظ ..رغم ما تعج به من لوحات فاتنة ..نال منها ذلك الترقب الذي لايدركه سوى العشاق وحدهم..(هل تباري نسائم الصبح إن هبت سحيرى منها الغصونُ تميلُ؟)ينتقل العذول الى محور آخر وسؤال جديد..ومباراة النسيم في الصبح يعني الإنطلاق والسعي والإندماج في الحياة ..واختيار كلمة النسيم كان موفقا ودقيقا لما يتسم به من الخفة والدعة في تأثيره ووقعه عند ملامسته الأشياء ..واختيار الوقت في الصبح لدلالة على ولادة الحياة واستيقاظها ..وميلاد السعي والإنتشار في الصبح ..(هل تناجي الظلامُ إن خيمَ الليل فهذا عن الذنوبِ يحولُ؟)مناجاة الظلام ..المعنى غير تام فقد امتنع سبقه بحرف الجر (في) بسب انكسار البيت والمناجاة هنا غيرها هناك ..فهي هنا تحول دون النوب ..مناجاة وتسبيح واستغفار ..الظلام جاءت مرفوعة وكان يجب فيها النصب ..والمعنى يتوجه الى التعبد وقيام الليل والإستغفار ..والبيت من حيث بنائه ضعيف..(قلت يكفي ما قلته بعض ما بي ؛؛؛واطلب العفو فالمقام قليلُ)يكفي ما ألقيته من الأسئلة..ويكرر نفس المعنى السابق بصيغة أخرى ..فالمقام قليل..قد جاء قبله في البيت الثالث قولها(عما قليل تزولُ)..القصيدة في مجملها تغلب عليها الرتابة وإن نثرت بين تلافيفها بعض الصور.. فالشعرغايته جمالية إبداعية..كما أنها مع ذلك قد احتوت على (موتيفات )موسيقية ولكنها قليلة جدا .. ولقد مر بنا كيف اشتملت على المتناقضات التي تعتري الإنسان عادة فتدثره بالحيرة واليأس..أما الرؤية الفلسفية التي ظهرت ملامحها من خلال القصيدة فتعكس التأزم الذي يحيط الإنسان.. وتوقفه لمحاسبة النفس من ناحية.. يأتي ذلك انطلاقا من وعي الشاعرة الذي ترى من خلاله الأشياء .(انتهى)
طيب الله جميع أوقاتكم ..
نص القصيدة
جاءني صاحبي عذولاً يقولُ ؛؛؛كنت بالأمسِ شاعراً لا تزولُ
ثم ضاعت تلك القوافي وغارت ؛؛؛أين ما كان هل لديكَ حلولُ؟
يا ترى هلْ نقمتَ يوماً لدار ٍ ؛؛؛ أنتَ فيها عما قليلُ تزولُ؟
هل كرهتَ المقام فيها وفيها ؛؛؛ظالمٌ أو منافقٌ أو جهولُ؟
هل تبرمتَ أن تعيشَ بدنيا ؛؛؛ليس فيها من الجمالِ جميلُ؟
هل رمتكَ العيونُ يوماً بسهم ٍ ؛؛؛من تلقاهُ فهْو دوماً قتيلُ؟
هل تركتَ الأنامُ ثم توجهتَ بعيداً يحلو هناك المقيل ُ؟
هل تناجي ليالي الصيف إن هلَ هلالٌ أو لاحَ مِنه أفولُ؟
هل تباري نسائم الصبح إن هبت سحيرى منها الغصونُ تميلُ؟
هل تناجي الظلامُ إن خيمَ الليل فهذا عن الذنوبِ يحولُ؟
قلت يكفي ما قلته بعض ما بي ؛؛؛واطلب العفو فالمقام قليل
ـــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
إيقاعات سحابة |
زوارنا من كل مكان
Loading...
مع طفلة البان..في حوار مع رماد شاعر..!!
تابع إيقاعات سحابة:
إيقاعات سحابة النقد
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
0 التعليقات:
إرسال تعليق