مذكرات ضابط سعودي
المؤلف / عمر العامري
الناشر / دار الرونة
المقدمة...
محمد بن مسعود الفيفي
في أدبنا العربي يعد كتاب "الاعتبار" للأمير أسامة بن منقذ أول مصنف في فن المذكرات، إذ عاش مؤلفه في القرن السادس الهجري وفاته سنة "588" ..ورغم قدم التجربة إلا أن تراثنا لم يحفل بهذا اللون من أدب السيرة الذاتية، فندر أن نعثر على مصنفات مستقلة في بابه ليعتبر لونا غريبا وشاذا في الأدب العربي، الذي صوب اهتمامه نحو الجماعة، واعتبرها مادته الأولى ليكرس تخليد القبائل والشعوب والأعراق، مقابل التجاهل التام للتجارب الفردية المستقلة فيتخطي نجاحاتها ومكتسباتها على الصعيد الشخصي، مالم تكن ضمن سياق المجموعة وبما لا يخرج بها إلى ما يشبه تمجيد الفرد وتخليده..وفي الأدب العالمي يعد كتاب "الاعترافات" لجان جاك روسو مدرسة في أدب السيرة الذاتية منذ القرن الثامن عشر الميلادي وإلى يومنا هذا إذ لم يبزه من الذروة التي يتسنمها مصنف آخر فيما أعلم، وبالعودة إلى محيطنا العربي فقد ظل أدب المذكرات غائبا حتى العصر الحديث بحيث أخذت المطابع ودور النشر تقدم أدب السيرة الذاتية إلى جانب الرواية والقصةالقصيرة كأجناس أدبية معاصرة..وبدأت المكتبة العربية تفرد رفا في علم الإجتماع يحمل اسم أدب السيرة الذاتية، نال حظوة من قبل المتابعين الذين يجدون في تلك السير خلاصة للتجارب العميقة، وقصصا للكفاح والمثابرة، والصبر والجلد، المؤدي للنجاح.. وبرزت عناوين مذكرات أهمها "الأيام" لعميد الأدب العربي طه حسين في ثلاثة أجزاء..وانتشرات قبلها وبعدها المذكرات لمشاهير المجتمع العربي من القادة والساسة ورجال الأدب والفن..حتى غدا تقليدا سار عليه الأغلبية. على المستوى المحلي ظهرت العديد من العناوين التي تحمل طابع المذكرات الشخصية لأدباء ومثقفين تعرض للذات وتغوص في الأنا دون أي إيغال أو تماس مع الحيز المسرحي، بسب الغياب التام لثقافة النقد، يتساوى فيه الكاتب والمتلقي على حد سواء..فالكاتب لم يسبق أن مارسه بحدوده وضوابطه لا في السر ولا في العلن..أما المتلقي فيقع في إشكالية المصطلح أهو "النقد"؟ أم "الطعن"؟ أو"القذف"؟ أوهو "التطاول"؟ إلى آخر ما هنالك من أوصاف تماهى بينها النقد الذي يقتات عليه النجاح في الغالب.
وبين أيدنا اليوم عمل إبداعي من طراز فريد، فرغم انحيازه لشخصية العامري إلا أنه يستحثك على نبش الماضي لتستل من خلاله مشاهد مطابقة لتلك التي تقرأٌها..انطلاقا من تفاصيل القرية بنمنماتها الدقيقة..إلى مصادر الثقافة المبكرة..والسفر والاغتراب، وتجارب النجاح والفشل..والدهشة والخيبة، حتى لكأنه يكتب نيابة عن شريحة واسعة من قرائه، وتلك وظيفة الأدب الرفيع بتجاربة الفذة..بحيث يمكنك العثور على قصاصة ما تخصك.الجوانب المتعددة لشخصية عمرو لا أجدها منحت المساحة الكافية من هذا السرد التسجيلي، لتبقى الشخصية المحورية أولنقل : البطولة المطلقة، للضابط البحري، ومسيرته إلى أن رغب التقاعد أدميرالا، ولا خلاف في أن قلم الأديب القاص عمرو العامري هو الذي قدم لنا الأدميرال فصولا مقروءة ، وذلك وحده كافيا لأن نلمس جانبا آخر من شخصية العامري بكل وضوح.
ولعلي أجزم هنا بأن حلمه الجميل الذي تبدد وانهار جراء عدم قبوله في كلية الملك فيصل الجوية،قد ترك أثرا عميقا في نفسه إلى الحد الذي اعتبره إخفاقا ظل يلازمه طويلا ـ رغم نجاحاته كضابط بحري ـ لتظل تلك الحادثة مدعاة لجلد الذات عند كل مواجهة مع الحياة، معتبرا إياها سذاجة وضيق أفق، ضاعت بسببها فرصته الوحيدة في التحليق والإنعتاق من سطوة الجاذبية..إنه يقول : "ومات داخلي للأبد القروي البسيط الذي لم يتعلم ابدا طرح الأسئلة.. القروي الذي رسب يوما في أختبارات القبول الطبية في كلية الملك فيصل الجويه ولم ينجح سوى في عمى الألوان." هذا المنعطف الحاد دفع به للمقدمة دون أن يدرك..والإخفاقات دائما تكون جليلة في عرف العظماء مهما كانت زهيدة، ولن تعوضها سوى نجاحات موازية في الكتلة والوزن، وأتذكر بالمناسبة الأدميرال الشهير ريتشارد بيرد، المولود في عام (1888م) هذا الضابط البحري الذي تعرض لسلسلة من الإصابات منعته من الخدمة في أسطول البحرية الأمريكية، تلك الحوادث العاثرة جعلت منه مغرما بالطيران وتكنلوجياته، ليدخل التاريخ عبر إنجازاته في الطيران بين السماء والأرض، وليس في الإبحارعبرالمحيطات بين الماء واليابسة..ولو تصادف أن نجح الأدميرال عمرو العامري في اختبارات القبول في الكلية الجوية وتحقق له حلم الطيران، لما دخل التاريخ من بوابة السماء أو اليابسة أو الماء، ولما كانت هذه المذكرات.. ولكنه دلف إليه وولجه عن طريق البحر، مغموسا في الألم.. وتلك مفارقة عجيبة جمعت بين الأدميرال ريتشارد والأدميرال عمرو، إنها الحالة الصحية لكليهما.. أكانت محقة أم ظالمة؟ لا يهم، ولكن الحرمان كان قاسما مشتركا بين الإثنين..ولست هنا بصدد الموازنة بين الشخصيتين..حتى وإن توقفت برهة لدى عبارات في مذكرات الرجلين، توشك أن تكون متطابقة، رغم براءة العامري من ذنوب الاقتباس!!يقول بيرل عن مذكراته : " إنني لا أحظى بالحرية الكافية لأكشف للعيان الوثائق المرافقة لهذه المذكرات، والتي لا أتوقع لها أن ترى النور،وتقدَّم للرأي العام.ولكن يجب علي أن أؤدي واجبي، وأدون هذا للجميع فقد يتمكنون من قراءتها ذات يوم. ولا يمكن في عالم يحكمه الجشع والاستغلال، أن يكتب المرء الحقيقة"الأدميرال ريتشارد بيرل.وفي المقابل نجد العامري يقول عن مذكراته : "لقد كنت شاهدا على حكاية زمن يمضي وآخر يتشكل.. تاريخ يُمحى وآخر يُكتب، كان العصر هو عصر الطفرة، والزمن هو زمن التحولات" ويقول: "لا أدري إن كنت أستطيع أن أقولها بتفاصيلها أم أنتظر سنوات أخرى ومساحات أكبر من التسامح؟ ولكن هل في العمر متسع؟."الأدميرال عمرو العامري.
إنهما يتفقان من حيث المبدأ على وجود قصريعتري سقف الحرية فيحول دون تسجيلهما لكامل الحقائق. قلتُ: ومن الناحية الفلسفية نجد العامري يمضي على خطى الفيلسوف الفرنسي الشهير جان جاك روسو في "الاعترافات" إذ يرى بأن المجتمعات تسير إلى الانحطاط بمرور الزمن، ما لم يرجع الناس الى سجاياهم الفطرية ويطبقونها على أبجديات حياتهم الإجتماعية..فنجد العامري يوشك أن يتطابق في هذا الملمح الفلسفي عبر سياق مترع بالحنين لتفاصيل الحياة في القرية في مستهل الثمانينات من القرن الهجري الماضي حين يقول : "والكل يعمل رجالا ونساء، والحياة تسير على قدمين، ولا مساحة للقبح أو سؤ النوايا".ولسنا نهدف إلى تتبع نقاط الاتفاق والاختلاف بين مذكرات العامري ومن سبقوه إذ كان ذلك لزوم مالا يلزم.
يقدم العامري هنا عرضا أدبيا رشيقا هو الأقرب الى كثافة النص الشعري أوهو الفن القصصي الذي يحيل إلى النص الغائب مرارا ، على غرار قوله: "لكني لم أجد كلمة مناسبة أملأ بها الثلاثة والعشرون عاماً التي تصرمت"..كما جاء النقد في إهاب ساخر ومؤثر يومئ في ومضات خاطفة على شاكلة عبارته هذه: (ووجدت أيضاً أن بعض الكتب وبعض الكتاب أصناما لا أكثر..صنعها الخوف من الإتهام بالجهل .. بعضها كرسه المال ..وبعضها كرسته السلطة .. وأخرى كرسها الجهل الكبير والابتذال ..وما أكثر ما رأيت من ذلك في شرقنا العربي النائم من الماء إلى الماء.)..وهو أيضا فوتغرافي استطاع توظيف الصورة المعبرة، وقد أتقن هذا الفن عن طريق الدراسة والتلقي المنهجي، ثم بالممارسة الطويلة عن حب وهيام، وفن التصوير ملكة أخرى من المواهب التي تميز شخصية عمرو.
تفاصيل كثرة تستوقف القارئ لهذه المذكرات غير أن الذي يشد الانتباه ويدعو للتأمل، ما أبداه الأدميرال من عاطفة سخية ونبيلة تجاه المرأة بوجه عام..ومكانة الأم تظل فوق كل مقارنة وهي التي رحلت مبكرا وتركت جرحا عميقا لا يزول، وبرغم ذلك فإنها لا تكاد تظهر على المسرح بمفردها إلا فيما ندر، وكانت اطلالتها دوما بمعية نساء القرية الكادحات..(ولا يكرمهن إلا كريم ) ثم هاهي شقيقتة مريم التي حظيت رسالته إليها بالإيثار لتأخذ طريقها للنشر هنا، وذلك لأنها ربما كانت الأم الثانية التي رعته بعد رحيل والدتهما، وهي رسالة يبث فيها لواعج الشوق ووحشة الاغتراب يبدؤها بقوله : (العزيزة مـريم.. سلام عليك، تكبرين ولا تكبرين في ذاكرتي... تبقين لي اليقين الجميل في دنيا تتغير كل يوم والبقية الباقية من زمن جميل لن يستعاد )..واستأثرت الزوجة بمساحة واضحة من هذا السرد؛ بوصفها الأقرب إليه مكانا وعاطفة، إذ هي الشريك الحقيقي لمشواره الحافل، مستدعيا قصة تجربته الأولى وما اعتراها من إخفاق فقال بأسى : ( والآن ومن هذا البون الشاسع من العمر ..حيث رؤية الاشياء بحيادية ممكنهِ ِ..لا اشعر نحوها بغير الأسف..وهي لا تقرأ ولن تقرأ هذا الكلام أبداً وإلا كنت طلبتها غفراناً لا أستحق).
وعندما تمت ترقيته إلى رتبة أدميرال (عميد).. كان في الولايات المتحدة الأمريكية، ووقفت إلى جواره زوجته السيدة وفاء عبدالله العمودي في حضور رسمي لهذه المناسبة..ليس لأجل الحضور أتت وأنما اشتركت فعلا في مراسم التعليق وقامت بثبيت رتبة العميد على كتف زوجها الأيسر كتقليد أمريكي، ولتكون بذلك المرأة السعودية الأولى ـ إن لم تكن العربية ـ التي تحظى من قبل زوجها بمثل هذا التكريم والاعتداد الذي وصفه بقوله :(وضع الفريق كنث الرتبة على كتفي الأيمن ..ووضعت وفاء الرتبة الأخرى على كتفي الأيسر) إلى أن يقول: ( وعندما تتحدث وفاء عن أجمل اللحظات في حياتها..تقول : أن تلك اللحظة واحدة من أجمل أيامها..وأظنها السعودية الوحيدة التي فعلت ذلك) ..و المرأة في مجتمعاتنا تولد أنسانة ذكية جميلة ، فيصيرها الرجل هامشية خاملة مسلوبة القوى والحواس، أوهي كذلك تبدو، فتعيش وتموت في السر، ويسقط اسمها من سجلات التاريخ كما أسقطه بعض الرجال قبل ذلك عندما اعتبروه سوأة لا يجب الإتيان على ذكره.. وقلة هم الرجال الكرماء مثل عمرو العامري الذين يدلون بشهاداتهم عن المرأة على مسمع من الدهر حينما قال : (وإذا كان هناك من معجزة فهي من صنعها..أنا كنت وما زلت فقيراً من المعجزات.ورغم أننا لم نرزق بأطفال فإننا لم ننظر لذلك أبدا كمعظلة تسمم حياتنا بقدر ما كان هدية من السماء .. حيث بقينا خفافا من القيود ومن قلق الخوف على ما نملك, مبذولين لبعضنا وأكثر .سافرنا معا شرقا وغربا وتقاسمنا شجن الاغتراب ولحظات السعاده وتجولنا في شواطىء وغابات على مساحة الكون وصنعنا صداقات بأتساع الدنيا ونزلنا بلادا سحرية بأمتداد الفضاء وما زل المركب يمضي.).
وإلى هنا سأدع القارئ الكريم يبحر بنفسه مع هذا السرد الشيق وليصطاد الدهشة من عمق التجربة التي يفصح عنها بحار أمضي ربع قرن يجوب مياهنا الإقليمية إلى أن أصبح الأدميرال عمرو العامري..
كتبه
محمد بن مسعود الفيفي.
0 التعليقات:
إرسال تعليق