(1)
"لابةُ غَسّان" والبيئة اللغوية!!
لأول مرة منذ بدء الخليقة تتم دعوتي لحضور معرض الكتاب الدولي بالرياض..وكان للدكتور الناقد خالد ربيع
الشافعي مبادرة شفعها الأخوة في نادي جازان الأدبي بالمباركة ، فكنت أحد ضيوف وزارة الثقافة والإعلام في
هذه التظاهرة الثقافية المميزة..وهناك في بهو الماريوت كنت ألتقي بغرر الزمن ونجوم الإبداع حيث تفضل
بعضهم بإهدائي آخر الإصدارات التي تراوحت بين المنظوم والمنثور.. ومن هؤلاء كان الشاعر المبدع أحمد
التيهاني الذي ناولني ديوانه بعد أن وقّعَ عليه بعبارة الإهداء الخاص : ( هنا بعض آلام المرحلة ) ، إنه
الديوان الثالث للشاعر مسبوقا بتجربتين هما ( أماريق ) 1420هـ ، و( فاعلاتن ) 1427هـ ، .
ويقع " لابة غسان " في ثمانين صفحة مقاس 22 /14 سم صادر عن الدرا الوطنية الجديدة ، بصورة غلافٍ
لعبدالله إبراهيم التيهاني ، وهي لقطة لباب قديم موارب ومطلي باللون الأخضر إنما يعن ـ خلفه مباشرة ـ
باب موصد.. فيما يظهر المحيط الذي يؤطر الباب لبناء عتيق يبدو متماسكا رغم الصدوع التي تقشرّ منها
اللحاء أو الطبقة التي تحمل الطلاء الأبيض لذلك البناء.
وبين دفتي الديوان 30 نصا شعريا ، بين المقفاة الموزونة ونص التفعيلة.. وقبل أن أتطرق إلى ما أود قوله
دعوني أقرأ لكم الإهداء الذي قال فيه الشاعر :
" إلى الضعفاء
الذين ظلموني كثيرا،
لن أُهدي هذا الديوان..
وإنما هو للأقوياء
الطيبين جدا."(1)
والذي يعرف التيهاني عن كثب يدرك كم هو شاعر مرح حاضر النكتة طريف مشاكس..فجاء الإهداء على هذا
النحو من المفارقة والسخرية.. ولك أن تتساءل متى يكون الأقوياء طيبون جدا ؟!!
لا بأس فالتيهاني شاعر عربي حتى النخاع دون أن يتقمص هذا الدور ، أو يهتصره عنوة ، إنه من خلال هذه
العبارة الساخرة : ( للأقوياء الطيبين جدا ) يشخص الواقع العربي بل وكل ما يواجه الإنسان على امتداد
جغرافية الأرض من تأزمات خلقتها الهيمنة والغلبة ومنطق القوة والسيطرة ..إنه يتمثل تلك الحقيقة حد التجسّد
ليفصح عن أرق الشاعر ، فتأتي فلسفته الساخرة لذريعة الإذعان بهذه الإهداء اللذاع!! .
البيئة اللغوية
اعتاد الشاعر محمد التيهاني أن ينتح مفرداته من ذات البيئة اللغوية التي أسهمت في تشكيل وجدانه وصاغت
تفكيره ، ذلك المعجم الجبلي الذي أخل به التدوين ، وكان مصيره التجاهل والاطراح، تحت ذريعة واهية لا
تثبت عند الاستقراء والتمحيص .
قلت : وجغرافية اللغة هي عندي ثلاث بيئات متباينة : الصحراوية ، والبحرية ، والجبلية . فحظي المعجم
اللغوي الصحراوي عند نشوء التدوين بالنصيب الأوفر من عناية الرواد وأساطين اللغة ، لكنهم أغفلوا بيئتين
لغويتين إلا ما ورد في القرآن الكريم(2) .
والديوان الأول للتيهاني حمل عنوان ( أماريق ) : جمع أمروق ، سماعي على غير قياس : وهي الأطراف
الشبيهة بالسهام النافرة من سنبلة القمح أو الشعير، لغة تنتمي للبيئة الزراعية الجبلية ..وهو المعنى الأول وفي
فيفاء الجبل يعرف بـالـ "مِرْقِ" واحدها "مِرقَةٌ" بتاء التأنيث و"مِرْقِيَةٌ" أيضا.
أما الإصدار الثاني فكان تحت عنوان (فاعلاتن ) والنون هنا أثبتها الشاعر كعرف إملائي درج عليه مدونو
مفردات هذه البيئة والتي نجد فيها التنوين يلازم الاسم مطلقا ..والفاعلات مفردة لا تحتاج إلى الشرح ، لكنها
تتضمن تورية ينصرف معها الذهن إلى الإيقاع العَروضي المعروف (فاعلاتن) .
وهذا ديوانه (لابَةُ غسان ).. واللاّبَةُ : هي العشيرة ، والقبيلة ، أوتصنيف لتكتل عشائري قبلي عتيق..
واللاَّبَةُ : جماعة الرجل ولُحمته من الفوارس الشجعان البواسل، وأولي النجدة والشكيمة والبأس ؛ في الحرب
والنزال ، كل هذه المعاني مستودعة في هذه المفردة وتحيل إليها بالضرورة..عبر قاموس البيئة الجبلية ، وهو
المعنى الأوحد الفذ لمفردة "لابة" ، وغسّان اسم علم مضاف إليه ، وجدّ جاهلي ، وعنوان يحتوى على نص
غائب مترع بالشعرية التي تستحث الهمم وتشحذ النفوس إلى الإباء وعدم قبول بالضيم والتسليم به.
(وإلى حلقة قادمة بإذن الله)
0 التعليقات:
إرسال تعليق