3
كاد الجد هانئ بن خولان الذي تنتمي له قبائل اليهانية ومنهم فيفا أن يعتزل دوره في فروع نسب خولان بن عامر ، ويتحول إلى مجرد حلف من اختراعات المؤلف ، لمجرد أن النسبة إلى (هانئ) لا بد أن تكون (هانوي ــ هانئي ) ، وقد أشرنا إلى ذلك في الحلقة السابقة من هذه السلسة وناقشناه هناك، وحين انتهى من هانئ بن خولان عرّج على ذكر (فرود) فقال : (وكذلك كلمة (فرود) لا تعني أيضا أن قبائل بلغازي ومن ينضوي معهم من القبائل تحت اسم (فرود) أنه نسبة إلى جد اسمه ( فرود بن خولان ) فلا يوجد شخص بهذا الاسم في كتب الأنساب حسب اطلاعي ) ج1 ص276 .
قلتُ : كلامه صحيح فلا وجود لـ ( فرود بن خولان ) في كتب الأنساب، لكن صاحب الاستقصاء فاته أن ما جهله الناسبون، وخفي عنهم، ولم يحيطوا به، أكثر مما أثبتوه ، فلا يعني أن عدم ذكره في أنساب خولان أنه لا وجود له، ولا يقول بذلك من لديه أدنى دراية بواقع المعارف الإنسانية التي تركها السابق للاحق ، والبلدانيون لم يذكروا (فيفا) من الحسن بن أحمد الهمداني، إلى الأمير نصر بن ماكولا ، إلى الشيخ ياقوت الحموي ، ولم يولد (جبل فيفا) على الخريطة إلا متأخرا ، وعدم ذكرهم له لا يعني عدم وجوده ، وأصحاب الشأن ومن ينتمون إلى هذا الجد يقولون : نحن أبناء (فرود بن خولان ) من أخوة (هانئ بن خولان)، حينها نعلم أن كتب الأنساب قد أسقطت فروعا كثيرا من القبائل العربية ، وفي هذا دليل قاطع على القصور الذي اعترى تدوين الأنساب، ولا يستدل به على عدم وجود أمة من خولان تنتمي إلى جد يعرف بـ ( فرود )، والباحث في أنساب خولان حين يتجاهل الواقع الراهن للتشكيل القبلي، فلن يضيف شيئا يذكره له علم الأنساب ، وأصحاب الحواشي مغرمون بتطبيق الماضي السحيق
على الحاضر الراهن ، فإن لم يتطابق معه تماما وضعوا التفاصيل المنظورة في قائمة المعدومات التي لا أصل لها، والباحث المتمكن لا يطَّرِح الواقع بحجة أنه لم يرد في سجلات الماضي ، والباحث المتمكن يبتهج حين يعثر على شعب من الشعوب يقول : نحن ننتسب إلى جد قديم اسمه ( فرود بن خولان ) فيثبته في بحثه، ولا يرد عليهم بالقول : أمهلوني لحظة لأرى هل ورد له ذكر عند النسابين أم لا؟.. كما فعل صاحب
الاستقصاء بشأن (فرود) . والمسألة ببساطة شديدة ، يجب عليك أيها الباحث في تاريخ فيفا وأنسابها النظر إلى الحاضر وليس العكس، وهكذا في كل علم تستوعبه منظومة المعرفة ، وعليك أيها الباحث في تاريخ فيفا وأنسابها أن لا تنشر أبحاثك في الناس دون إخضاعها للدراسة المتأنية والنقد والتمحيص ، لأنها ستأتي شوهاء، عابسة مكفهرة ، وحينها لن يرحمك النقد ولن تكبحه عباراتك التي تقول : لا تنتقدوني فإنكم إن فعلتم كانت لغتكم غير علمية ، وأهدافكم غير شريفة ، ومقاصدكم لا تمت لأدب الحوار والنقاش العلمي بصلة، وإنما أبنتم عن الحسد والغيرة التي تجيش بها صدوركم الضيقة ، ثم تعزز مقولتك بالبيت القائل :
وعين الرضى عن كل عيب كليلة // ولكن عين السخط تبدي المساويا
فهذه الموعظة لن يلتفت إليها النقد .
ولمؤلف كتاب ( الاستقصاء لتاريخ فيفاء ) أسلوبه الغريب ومنهجه المتطرف في الاستنباط ، فيما يخص النسب كما رأيناه في مسألة (فرود) وكما سنرى لاحقا، أما القراءة الجغرافية فآية أخرى وأعجوبة من العجائب، وهو يلوي أعناق النصوص ويسوق المهلكات، وتأمله حين يورد كلام الدكتور سليمان بن قاسم الفيفي في قوله : ( إن فيفاء تطلق على عدة جبال ..... وليست جبلا واحدا كما يفهم من الاسم .... ويطلق على مجموع هذه الجبال (فيفاء ) ج1 ص48 . لا تستعجلون بالله فقط امهلوني ثواني ! .. المكان المعبأ بالنقاط في النص الذي نقله من الدكتور يعني التصرف في العبارة المنقولة ، بالله أمهلوني مزيدا من الوقت لأخبركم السر وراء ما يمهد له! ، إنه بهذا التصرف في النص المنقول عن الدكتور إنما أملاه وفرضه حشد الأدلة والقرائن التي تفيد امتداد فيفا وتعدد جبالها بحيث تتصل جغرافيا بتهامة قحطان ! ، إنه الآن يمهد لشيء ما ، ولستم في حاجة لإدراك مقصد الدكتور من قوله (عدة جبال) لكن الذي اقصاه من العبارة صاحب الاستقصاء أن هذه الجبال المتعددة تجمعها ( قاعدة واحدة ) ، لا بأس دعونا نمضي معه لنكتشف سبب تصرفه بالنص وكيف سيقرأه ، ويحشد مزيدا من القرائن ويضيف : ( وقال الباحث محمد بن فرحان الفيفي : ويحدها أي فيفاء من الجنوب جبل العر وهو جبل شاهق يتاخم جبل فيفاء من الجهة الجنوبية ) نفس الصفحة قلتُ : ما هذا؟ أنا جاد جدا في تساؤلي، متى كان جبل العر يحد فيفا من الجنوب ؟ ثم لماذا هذا القلق في عبارة محمد بن فرحان؟ ، قال ( يحدها من الجنوب الجبل جبل العر ) ثم (العر جبل متاخم لجبل فيفا) وكل ذلك في سطر فالذي يحدك في المال هو من تتماس أرضيكما بعضها ببعض ، وتتلاصق، وتتلاحم ، وتتداخل ، بينما الذي يتاخمك هو من يسامتك تراه وتبصره من موضعك على نفس الامتداد الأفقي، وقد لا تشترك معه في الحدود ، الذي يتاخمك الذي يوازيك و يقابلك ويناظرك ويقف معك على أفق مشترك، ولستم في حاجة لاستنباط ما يعنيه الباحث محمد بن فرحان
من عبارته الغريبة السابقة ولكن ربما ستجدون السر في مسألة الحدود السياسية بين بلدين . وإن لم يكن الأخ محمد بن فرحان قد انضم إلى ركب الباحثين فسيأتي ليبين لنا الفرق بين (الحد) و(المتاخمة) في هذا النص الغريب العجيب في كافة ملامحه، إنما أطلب منكم مهلة أخرى لأذكركم أن الباحث أورد النص السابق في خضم حشده للقرائن والأدلة لشيء ما يمهد للوصول له، فأضاف : ( ومما يُدَعِّم ماذكره الباحثان ما
أورده الكبسي في اللطائف السنية مانصه : ( فيفاء أرض نازحة متصلة بأرض قحطان وفي التهايم إلى قرب وادي ضمد ، وهي أي فيفاء مسير عشرة أيام جبال ووطى ) هكذا ! . نفس الصفحة . فلم تعد فيفا ( جرفُ يومٍ ولـ امشروقْيَة ) ، لقد كان يحشد الأقوال التي يراها تسهم في تمدد الحدود وتكثير الجبال، فمط الخريطة حتى أوشكت على الانقطاع من أجل أن تقفز فيفا إلى تهامة قحطان، لأنها إن فعلت أمكن دمجها ولو تلفيقا في سراة جنْب ، وحينها تعيش مقولة (مذحجيتها) أسبوعا آخر ليس أكثر وفقا لتكلفات المؤلف التي لا تدعمها حجة مهما كانت في متانتة خيط العنكبوت، فإذن لا تتعجب لاحتفائه بنص هذا الكبسي ، الذي ضرب عنه صفحا فلم يعقد له موازنة تبقيه في حقل الجغرافيا، بل تركه يواجه مصيره المحتوم من الموت والفناء، لقد قلت لكم سابقا إنه يعمدُ إلى تهذيب الشواهد التي ساقها قبل كلام الكبسي لتكون مؤيدة له، متجاهلا الشذوذ الذي اعتراه حين لم تكن فيفا في يوم من الأيام إلا التي نعرفها، لكن مهلا فالباحث لم يكتف بهذه الفيفاء التي منحه إياها الكبسي في اللطائف بل استدرك عليه بين قوسين قائلا : ( قلتُ : يقصد صاحب المخطوط قرب قرية ضمد ، وأما وادي ضمد فإن أكبر جزء منه هو من قرى فيفاء من الجهة الجنوبية الغربية ) .الاستقصاء ط1 (1432) ج1 ص 49 . وهكذا يخلص الباحث إلى أن فيفا تشمل مساحة أكبر مما هي عليه الآن .
قلتُ : رغم مناقشته لموضوع جغرافية فيفا كما مر بنا إلا أنني ما زلت أحسن به الظن ملتمسا له الاعذار من : جهل، وقلة معرفة بالبحث والتصنيف، ونقد القرائن، واستصحاب العقل والمنطق، فوقع في مغبة عدم الركون إلى الصواب كونه مشهورا وسُبِقَ إليه، ولم يتجنب شاذ الأقوال وما لا يصح تحت إغراءات الجدة والحداثة . ولأنْ يأتي الباحث بالقليل من الصواب في حلة قديمة ، خير له وأبقى لجهده من أن يجلبه مزخرفا بوشي لأباطيل الفريدة المبتكرة .
ولأن الشيء بالشيء يذكر سأختم حلقة اليوم بطرفة تشف عن منهج الباحث في الاستقراء واستنباط الشواهد وذلك في معرض حديثه عن قبيلة آل عبدل التي أنتمي إليها فقال : (وقد جمع الشاعر : يحيى بن محمد العبدلي أكثر بطون قبيلة آل عبدل في هذه القصيدة :
1 ـ معي قبيلة رادية وسيل دحان // امثابتي وِمحِسيني وهل خطفان
ولا تهون اهل امحقب
جمعت رجال امحانبي من حيث داعيهم
2ـ وباقي امجذمين من حربٍ وردّان// وشرة الشر من يقرع كل شيطان
نفرح بطيلاع امسبب
دعوة من الله والنبي ذهب الحيا فيهم )
الترقيم من عندي، إنما يعلق بقوله : ( هنا يشير الشاعر عندما قال : ( وباقي امجذمين من حرب وردان ) أن باقي هذين الجذمين من سلالتي (حرب) و (ردَّان) وهما بطنان قديمان من بطون قبيلة آل عبدل القديمة اللذان لم يرد لهما ذكر لقدمهما إلا في هذه القصيدة ) ج4 ص345.
قلتُ : لن أطالبه هنا بذكر الراوي الذي نقل له النص لأن ذلك لن يجدي نفعا، وإنما لا تروى هذه ( الزملة ) كما أوردها المؤلف ، فالشطر الثاني من (1) يروى : ( امثابتي مع امحسيني واهل ختفان ) وليس خطفان الذي سنؤجل الحديث عنه إلى حين ، أما المصراع الأخير من (1) فيروى : ( صلّةْ رجال امحِنبي من حيث داعيهم ) وليس (امحانبي) وهذا التعديل والاستدراك لا يؤثر كثيرا ، ولكن في (2) حدث استبدال حرف الجر ((في) بـ ( من ) ، وهذا الشطر الأول من (2) يروى : ( وباقي امجذمين في حرب وردَّان ) وصحة الشطر الثاني : ( وشرة الشر تا تقرع كل شيطان )
والمصراع صحته ( تفرح بطيلاع امسبب)، هذا ما يختص بالرواية الصحيحة لما ساقه من شعر يحيى بن محمد أعلاه، والباحث لم يسأل الرواي عن الجذمين ولم يتوقف عند عبارة ( وباقي امجذمين ) ويتساءل عن المعنى المقصود، هل يقصد البقية الغائبة عن النص التي لم يذكرها الشاعر ؟ أم هي بقية من أقوام منقرضة؟!! لاإله إلا الله .. الجذمين الَّذيْن قصدهما الشاعر هما : (آل مهطل ، وآل التليدية) في أصح الأقوال، ومن لديه علم آخر فليبديه ..وكانوا يعرفون بـ ( امجذمين ) ، لكن صاحب الاستقصاء لا يتورع عن الابتكار فيأتي محملا بكل غريب ، ومعنى قول الشاعر
(في حربٍ وردّان ) : 1ـ الكر والفر ، 2ـ النكاية بالعدو عبر هجمات متتالية، 2ـ رد الصاع صاعين، و(الردّان ) : اسم المفعول، من الفعل الماضي
رَدّ ، أعاد ، ومنه : أجاب ، ناظر، حاور ..الخ، فلا بطنٌ هناك ولا ظهرٌ أشار إليه الشاعر خلاف من ذَكَرهم ، وإنما المنهج الاستقصائي دعا المؤلف أن يضيف بطنين لآل عبدل هما :(حرب ) و ( ردّان ) .
0 التعليقات:
إرسال تعليق