4
يتكرر الإقصاء في "الاستقصاء" بما لا يخطئه السمع والبصر وكأن جفوة قائمة بين مؤلفه وبين كل ما هو خولاني، جفوة تحرضه على ابتكارات لا يمكن حملها على حسن النية مهما تكلفنا ذلك في ظل غياب الأدلة التي تشفع للباحث فاستعاض عن ذكر خولان بحمير ولا ضير ثم يصبح ( اسم اليهانية يمثل اسما لعدة قبائل كهلانية، وحميرية، وعدنانية، قديمة )ج1 ص275 ، وهذا فقط لدى مؤلف الاستقصاء (القرن الخامس عشر الهجري )، بينما هو غير ذلك لدى الحسن بن أحمد الهمداني مؤلف الإكليل ( القرن الرابع الهجري )، فقد ذكر صاحب الإكليل تحت عنوان نسب
"هانئ بن خولان" وصنّفها بادية كلها، مانصه : ( وولدَ هانئ بن خولان: هلالا، وعليا، وهو العلي ، فولد هلال شرحبيل وهلالا ، فولد هلال شرحبيل الأصغر، وجابرا، ابني هلال الأصغر) الإكليل ج1 ص 283 .
وقال أيضا ص302 منه : ( وأولدَ هانئ بن خولان ــ مهموز ــ خمسة نفر : هلالا ، ويعلى ، وعليا، وسعدا ، وجامعا ) .
وقال أيضا ص 305 منه : ( وسألت ابن أبي الجعد عن الأزنوم من خولان فقال : بنو زنامة من ولد هانئ بن خولان، قال ويسنم من بني حمرة، والسهميون من البقْراء ، وهي غير سهيم واهم ، وشداد بطن، من آل أبي حجاش من اليهانية).
وأضاف في نفس الصفحة منه : ( وسألت ابن أبي الجعد عن حفظه لنسب ولد هانئ ، إذ كانوا ولد أبيه، فقال : أولد هانئ بن خولان : هلالا ، وزنامة، وبرقشيا، وعمرا ، وحفاشا ) .
قلت : هذا الأخير تصحيف لحجاش الآنف الذكر، المعدود في اليهانية ، وقوله : (إذ كانوا ولد أبيه ) يقصد أن ابن أبي الجعد من ولد هانئ ، ولفظ (اليهانية) أعلاه أورده صاحب الإكليل في النسب لهانئ، ولم يلتفت لمقترحات صاحب "الاستقصاء" التي تكلفها ليجعل (هانئ بن خولان ) مجرد حلف قبلي يضم عدة قبائل : كهلانية، وحميرية، وعدنانية قديمة ، ولأنه أي مؤلف "الاستقصاء" لديه حساسية مفرطة تجاه خولان فإنه لا يقبل منك انتسابك إليها ، فتحلف له بكل مقدس إنك خولاني فلا يقبل منك، وتقسم له إنك تنتمي إلى هانئ بن خولان فلا يستمع لك، وتبذل جَهدَ أيمانِك إنك من بني هلال بن هانئ بن خولان بن عامر فيصم أذنيه، ويصد عنك ، ثم يتناول أدلتك ويعبث بها ويحيل حججك إلى رماد تذروه الرياح، ويسوم شواهدك سوء العذاب، على نحو لم يُسبق إليه من مُدَوِّنٍ عبر التاريخ وتأمله في معرض حديثه عن قبيلة آل عبدل التي أنتمي إليها وهو يقول : ( والأغلبية من هذه القبيلة يقولون : إنهم يعودون من بني (هلال) وهذا ما يرويه كبار السن منهم ، ويستشهدون ببعض القصائد الشعبية من شعرائهم القدامى ، ومنهم الشاعر : يحيى بن محمد العبدلي رحمه الله ، حيث قال:
يقول ابو علي زمل وبين سدّرَ // مابين قوم العبدلي شيخ وعسكرَ
يذكر لنا موّل بقية من بني هلال)
ثم يقول بعد تمام الأبيات : ( وأجدني أميل إلى هذه الرواية التي تدعمها بعض من أشعارهم ، ومما يترجح عندي أنهم ينحدرون من أبناء هلال بن جشم من قبيلة مذحج والله أعلم ) ج4 ص261 ، 262 .
قلتُ : هلال بن جشم المذحجي ؟ ..، بالتأكيد إن ما يفعله الباحث هنا معاندة للنص بشهادة الإنس والجن ، وقد سقتُ لكم أعلاه أربع اقتباسات متتالية من الإكليل لأبناء هانئ بن خولان، فلم يسقط (هلال) من واحدة منها، وبقي أول من يُذكر في أبنائه ، والشاعر يحيى بن محمد تفضّل على الباحث واختصر له المسافة إلى هانئ بقوله ( يَذْكر لنا مَوَّلْ : بقية من بني هلال )، فهل سار مع النص أم ضده ؟ وبدلا عن هلال بن جشم المذحجي يكون الصواب : هلال بن هانئ بن خولان بن عامر القضاعي ، فالشاعر ينتسب إلى خولان وقال : ( بلاد خولان بن عامر ملك بازلي ) أي أرض آبائه وأجداده . لقد استبشرتُ وأنا أقرأ مقدمة العبارة حين يقول : ( وأجدني أميل إلى هذه الرواية ... حتى قال (هلال بن جشم من مذحج ) فأُسقِطَ في يدي إذ يستحيل مناقشة من كان هذا تعامله مع النص الشعري والسرد الشفهي، وتأمله حيث يقول : (ومن الروايات الشفهية المستفيضة بين قبائل المنطقة التي يتناقلها كبار السن أن قبيلة بني هلال أيضا استوطنت هذه المواضع ومنها وادي ضمد ووادي ثبا ونيد المقابير والقدة في زمن قديم ثم رحلوا ضمن من رحل ..إلى أن يقول : ( ولعل إن صحت روايتهم يكونون من بني هلال المذحجية لا العامرية لوجود قبائل من فيفاء تنتسب إلى بني هلال إلى هذا التاريخ والله أعلم ) ج1 ص50 .
قلتُ: فرواياتهم لا تكذب وهي من الصحة بما يكفي لتلقيها بوعي إنما قالوا : هم يرجعون نسبا إلى خولان بن عامر فهل أخذ الباحثُ حسن بن جابر الثويعي بروايااااتهم المستفيضة في هذا الصدد؟، الجواب : لا !.. ولو فعل لما استقدم الهلال المذحجي بمستندات لاتصح ليقيمه بديلا عن هلال بن هانئ .
وقد ذكر الهمداني من بني هلال بن هانئ بن خولان أربعة هم : جماعة ، وحذيفة ، ومعاصما، وحبيبا ـ بفتح الحاء ـ ) وانظر التفصيل في ج1 ص305 من الإكليل، فإن لم يجد صاحب "الاستقصاء" في قائمة اسمائهم : عمرا، وعبدلله، والحكم ، وثابتا، وشرحبيل ، وزنامة ، وحربا ، حينها سيكون بيده ذريعة قوية لطلب (فِيَز) استقدام لعدد من المذاحجة لسد تغرات النسب في قبائل فيفا اليهنوية الخولانية .
والباحث يخترع حججا وبراهين على مذحجية فيفا تخالف المنقول والمعقول في سعي يغلب عليه الاستخفاف بالقارئ كما سيتبين لك من عبارته التالية معلقا على الورم الجغرافي الذي قذف بحدود فيفا إلى سراة عبيدة في قحطان شمالا وإلى مدينة ضمد غربا، فقال : ( وعلى هذا فلا أستبعد أن المشرَّق وجبل خيران، والعتمة ، وروحان ، وجبل غينة، والأماكن التي تقع جنوب قعيد، وغيرها من المواضع في تلك الجهة كان جزءً مما يسمى بفيفاء في الماضي .
ومما يغلب على الظن أن قبيلة (رهاء) التي رحلت من فيفاء زمن الفتوحات الإسلامية كانت تقع مواطنها في الجهة الجنوبية الغربية من حدود جبال فيفاء في الوقت الحاضر على امتداد المواضع المذكورة حتى جبل المشرّق) ج1 ص 49 .
قلتُ: تاريخيا لم تنزل فيفا وإنما نزلت قرب تثليث وكان طريقها من نجران وعبارتيه ( لا أستبعد )، و( مما يغلب على الظن ) لا تعني أنه قدم برهانا ، فلأي شيء يُلزِم القارئ أن لا يستبعد مالا يستبعده الباحث؟، ولأي شيء يُلزِم القارئ أن يَغْلُب على ظنه ما يُغَلِّبُ فيه الباحث ظنَّه ؟ ولم يقدم دليلا ولا أدنى من دليل، على أن أمة تعرف بـ (رُهاء) استوطنت فيفا ورحلت عنها زمن الفتوحات الإسلامية، فلا كشف أثري يفيد العلم، ولا ذريعة أيًّا كانت مادية أو جدلية، والتاريخ لا يُتَوَهَّم ، فلا بد من وقائع وأحداث، ومنهجيا لا يقول الباحث ( لا أستبعد) حتى يستنفد كل القرائن والحجج المنطقية التي توصل إليها، ولا يقول ( ومما يغلب على الظن ) حتى يعرض اكتشافاته أجمع وفتوحاته التي حققها فدفعته إلى تغليب الظن، لكن باحثنا يكتفي بهذه العبارات التي لا تغني من الحق شيئا، متجاهلا أن تغيير الخارطة الجغرافية والاجتماعية لفيفا لا تأتي عبر (لا أستبعد) و (مما يغلب على الظن )، ولأجل التسليم بمذحجية فيفا يلزم الباحث أدنى قدر من البراهين التي يقبلها العقلاء، لا على الظنون التي
تنافي العلم اليقين ، وهو يكرر عبارة "الذين رحلوا من فيفا زمن الفتوحات الإسلامية" هذه أكاذيب، ثم يعتقد أنه قال حجة وساق بيّنة وهو أبعد الناس ــ في هذه العبارة تحديدا ــ عن الصواب .
ومازلت أحسن الظن بباحثنا الكريم حسن بن جابر الثويعي الفيفي رغم تعمده ترميم النصوص المقتبسة بما ليس لأصحابها ومن أعجب ما وقفت عليه نقله عن الهمداني بلاد خولان وأوديتها بعد مقدمة من الثناء على صاحب صفة جزيرة العرب فانطلق قائلا : ( قال في الصفة [ يقصد الهمداني ].. ومدينة خولان العظمى صعدة ) ..ج1 ص292 ثم سرد بلاد خولان باختصار نقلا عن الهمداني على امتداد الصفحات 292و293و294و295 إلى أن يقول: ( فهذه بلد خولان قضاعة على حد الاختصار وأغوارها داخلة في تهامة من جنوب وادي ضمد حيث مساقط وادي خلب وتعشر ولية وحاضرتهم بلدة الخوبة من معالي خلب وتمتد ديار خولان في أعلى السراة إلى سراة جنب وفي نجدها يتصل ببلد وادعة ) ج1ص295 .
قلتُ: يفترض أن النص السابق من كلام الحسن بن أحمد الهمداني منقولا عن الصفة كما ذكر المؤلف إلا أنه ليس كذلك فكلام الهمداني ينتهي عند عبارة ( داخلة في تهامة )، ثم رممه بكلام عاتق بن غيث البلادي الذي جاء : ( من جنوب وادي ضمد حيث مساقط وادي خلب وتعشر ولية وحاضرتهم بلدة الخوبة من معالي خلب )، ثم ختمه بكلام الهمداني ( وتمتد ديار خولان في أعلى السراة إلى سراة جنب وفي نجدها يتصل ببلد وادعة ) والحاشية التي وضعها على كلمة تهامة دون أن يغلق النص لا تشفع له هذا الترميم العجيب ، ولا تمنحه البراءة تلك التي وضعها على كلمة خلب ومازال النص مفتوحا حتى انتهى كلام الهمداني بنقطة وحاشية في السطر الخامس من الصفحة المشار إليها ، ثم في الهامش الأخير من الصفحة يثبت قائلا (الهمداني : صفة جزيرة العرب ) . والسؤال: هل كان كلام الهمداني بحاجة للترميم فلا يفتح المؤلف قوسا آخر؟ يقول فيه أما عاتق بين غيث البلادي فقال .. إلخ ؟ . والداعي لهذا الترميم مرده التقوي بالعبارة التي دخلت أثناء النص وهي كلمة (من جنوب وادي ضمد )
التي سيحملنا وزرهاعلى امتداد "الاستقصاء" . لقد وجدت النص مختلفا في آخره مطابقة مع الصفة، في حين تجاهلت الحواشي التي أرهق بها القارئ حيث كانت للتعريف بالأماكن التي سردها الهمداني، لكني التمحت عاتق بن غيث البلادي في الحاشية رقم9، لأكتشف الترميم الذي جاء متوافقا مع النص الأصلي المنتزع من الصفة من حيث البداية والنهاية لا من حيث السياق . لقد قام المؤلف بترميمات كثيرة خلال الاستقصاء ولم أجدني شعرت بالاستغفال في أي واحد منها كما شعرت به هنا ، هذا الإصرار العجيب وارتكاب ما يمكن أن يعد في التدليس كان لأجل الإتيان
بمذحج ليقوم بدور الأب بدلا عن خولان ، ولنفترض جدلا أن باحثا توصل إلى هذه الحقيقة أي أن فيفا والدها مذحج فمن الأنسب أن يسوق الباحث مثل هذه الحقيقة عبر لغة أكثر إنسانية وشفقة ورحمة، فهنا قوم عاشوا منذ الجاهلية الأولى يعتقدون بإيمان قاطع أن جدتهم الأولى ضرية بنت ربيعة بن نزار أم جدهم الأول لم تنم مع مذحجي وأنما رقدت مع عامر القضاعي ، أقصد أن تُخفَّف عليهم الصدمة من قبل الباحث
فيجعل الأمر يبدو منطقيا ، نعم ذكر المؤلف في الإهداء أن أكثر أهل الجنة من مذحج وفي ذلك شيء من العزاء لكني لا أجده عزاء كافيا طالما كانت الجنة لا تُنال إلا بالعمل لا بالنسب، عزاء ضعيف مقابل المرارة السرمدية التي تنتاب من يكتشف أن أباه ليس الذي يتصدر سلسلة نسبه .
0 التعليقات:
إرسال تعليق