5
هذه الحلقة خصصتها لمناقشة أبرز الأدلة التي اتكأ عليها الباحث للقول بمذحجية فيفا ، فقد استعرض أولا أقوال المبرزين ممن تصدوا لنسب قبائل فيفا وهم :
1ـ الشيخ على بن قاسم سلمان الفيفي .. موضوع بحثه (تاريخ وأنساب فيفا) .
2ـ الدكتور سليمان بن قاسم سلمان الفيفي .. موضوع بحثه المخطوط ( تاريخ فيفا) .
3ـ محمد بن فرحان محمد الفيفي .. موضوع بحثه المخطوط ( تاريخ فيفا القرن الرابع عشر ) .
4ـ حسن بن جابر الحكمي الفيفي ..موضع بحثه موسوعي ويشمل ( تاريخ وأنساب فيفا) .
هؤلاء كانت بحوثهم متخصصة في (فيفا)، جغرافية، وتاريخا، ونسبا، ورغم التصاقهم بها ومعرفتهم بأنسابها إلا أن صاحب (الاستقصاء لتاريخ فيفاء) رد أقوالهم جميعا، بشأن انتسابها إلى خولان قضاعة، ولا بأس أن يفعل ذلك فالأمر يحسمه الدليل والبرهان ومن حقه أن يفعل حين يضع يده على الأدلة التي تنسف أقوال من سبقوه حتى عصر التدوين، فذلك متاح لكل صاحب جهد وبذل وإخلاص، وبالتأكيد هناك أسماء مغيبة ممن تناولوا نسب قبائل فيفا لم يرد لهم ذكر في "الاستقصاء" ، وبعد نقاش مستفيض مع الشيخ على بن قاسم الفيفي حول جغرافية بلاد خولان، ونسب
عبس، اضطر المؤلف لاستخدام أدوات ممنوعة وارتكاب مخالفات استوجب معها اشهار الكارت الأحمر أثاء مناوراته من أجل الكسب لصالح مذحج ، ــ أشرنا لذلك في الحلقة الرابعة ــ حين أضاف نصا دخيلا على أقوال الهمداني، واخترع كلاما على لسان الدكتور جواد علي لم أتطرق إليه بعد ثم راح يناقش ما تقوَّله، كل ذلك من أجل أن تكون الخريطة الجغرافية متفقة مع ما ذهب إليه.. والحجج والبراهين يجب أن تنهض بنفسها لا أن تكون في حاجة إلى مساعدة للوقوف ، قوية بذاتها ، حية نضرة ، مضيئة ، كما لاتحتاج إلى تدخلات وترميم وتقويل الناس مالم يقلولوا . وحين أتم ذلك النقاش العجيب مع الشيخ علي استكمل استعراض بقية الأقول في النسب وختمهم بـ :
1ـ عاتق بن غيث البلادي ... وموضوعه جغرافي ( بين مكة واليمن) .
2ـ عمر بن غرامة العمري .... وموضوعه ( قبائل عسير ) .
3ـ علي بن جابر شامي ... وموضوعه (صبيا في التاريخ ) .
وكما نلاحظ من عناوين أوراقهم فهي لا تمس فيفا ولا تكاد، وكلهم في الحديث عن جغرافيتها وأنسابها حاطبوا ليل ولا يبلغ منتهى علمهم في ذلك معشار مما لواحد من أصحاب القائمة السابقة فضلا عن الشيخ علي بن قاسم الفيفي وإحاطته وهو ابن بجدتها، مهما تعصبنا لهم ، فقال المؤلف : ( أما المؤرخ عاتق بن غيث البلادي فذهب إلى أن قبائل فيفاء تعود في أصولها إلى قبيلة (جنْب)ج1 ص300 . قلت رحم الله عاتقا فهذه بعض تخليطاته عفا الله عنه . ثم يضيف : ( أما الباحث والمؤرخ أبو سعيد عمر بن غرامة العمري، وكأنه ينسب هذه القبائل أو بعضها إلى (رُهاء) ويعد جبال فيفاء من مواطن مذحج عندما قال : إن قبيلة رهاء وهم بنو رهاء بن منبه ..... قد رحلوا من اليمن قبل الإسلام واستقروا في سراة جنبْ، وتعرف في زماننا هذا بسراة فيفاء) نفس المصدر . قلتُ: كذب العمري وإنما تعرف سراة جنب في عصرنا الحاضر بـ ( سراة عبيدة ) . ثم يضيف قائلا : ( وقال الباحث علي بن جابر شامي عندما تحدث عن قبائل المنطقة وأصولها قال : سعد العشيرة من مذحج ، وتمتد بطونها في المنازل التالية ـــ في جبل فيفاء : قبيلة فيفاء من جنْب من مذحج وأحدهم فيفي ــ في سفوح جبل فيفاء الغربية في امتداد إلى السهل الساحلي ـ في الجبال المعترضة لأودية بيش وصبيا وضمد ) ج1 ص301 . قلتُ : وهذا أكذب من سابقه وفيه مزيد من الغباء وجهل كثيف ، فإذن هذه كل مستندات الباحث التي وضعها بين أيدينا وكانت نافذته على مذحجية فيفا نسبا، ولن أعرج على المستند الأخير وفقه صاحبه في الجغرافيا والأنساب (الله يسامح ويغفر) . وأعود للقول : بعد استعراضه للأدلة الخاطئة عند المجموعة الأولى، والأدلة الصائبة عند المجموعة الثانية؛ فتح العنوان التالي :
( قبائل فيفاء وترجيح صحة نسبها إلى قبيلة مذحج ) ، وتحت هذا العنوان كتب يقول : ( ولذلك فإني أجدني أميل إلى ما قاله المؤرخون الأخيرون عاتق بن غيث البلادي، وأبو سعيد عمر بن غرامة العمروي، والباحث محمد بن جابر شامي ، من أن قبائل فيفاء تعود من قبيلة مذحج المعروف ( بمالك بن أدد)، وأرجح ما ذهبوا إليه من نسب هذه القبائل إلى مذحج، وقد أراني أجزم به لعدة أسباب ) ج1ص302 .
قلتُ : لم يقدم الثلاثة أي قرينة يُعْتَدُّ بها أو يُرْكَنُ إليها، بما فيها صاحب (قبيلة فيفا)!، لكن الباحث سيتولى مهمة التنقيب عن الأدلة التي يراها كافية لإثبات صحة أقوالهم، ولو رصدنا عباراته في المُقتَبسِ أعلاه لوجدناها تبدأ بقوله : أجدني (أميل)، ثم : (أرجح) ما ذهبوا إليه، ثم : قد (أجزم) به . هكذا (مال) ، و(رجّح)، وكاد (يجزم) في سطر !!، والباحث هنا يكشف للجميع كم هو سلس القياد، مستسلما، مذعنا، فلا يناقش
أويجادل، أو يتأمل، أو يقارن ، كي يقنع المتابع بسلطته، وسيطرته، وحاكميته، ونفوذه، تجاه قبول الحجة والبرهان، وسبر أغوار النص، وواختبار الفكرة المنتقاة وتمحيصها، وغربلة وصهر ما يسوقه إلى قرائه، وبذلك يتجنب أن يجلب لهم الحشف وسوء الكيل، والباحث الذي ينوي شطب أبيه والانتساب لعمه ـ كما قال أبو سعد ـ لا يكون بهذا الضعف والاستسلام الذي مر بنا وهو يميل، ويرجح، ويهدد بالجزم، في ثوان لاغير، ثم بدأ الباحث يسرد (الأسباب) التي تؤكد صدق ما ذهب إليه الثلاثة من مذحجية قبائل فيفا، وكانت الباعث الذي ألح عليه بالميل ثم الترجيح فالجزم ، ومن تلك الأسباب يقول : ( أولا : من المعروف في كتب التاريخ أن منطقة فيفاء هي من سراة جنْب، وما دام كذلك فلا شك أن سكانها من فروع أبناء مذحج ) ج1ص302 .
قلتُ : ليس من المعروف، وهذه الجملة تُعَدُّ في التغرير والاستغفال، مع التسليم بأن "من عَلِمَ حجة على من لم يعلم" ، والمؤلف يقول : كتب التاريخ (بصيغة الجمع) بحيث أصبح ذلك أمرا مشهورا معروفا، وبالعودة إلى المحتوى الذي شمل خمسة أجزاء لم أعثر على أي نص تاريخي يشير إلى (أن فيفا من سراة (جنْب)، ولمن لا يعرف (سراة جنْب) فهي التي يطلق عليها اليوم (سراة عبيدة) فمتى كانت فيفا من سراة عبيدة ؟ وتمنيت أن يكون المؤلف تلطف وأوردَ لنا هذه المعلومة الجغرافية العزيزة، ولو من كتاب تاريخي واحد على الأقل . إما إن كان قد ذكرها ولم أهتد
إليها فإني أناشدكم الله أن تدلوني عليها ـ لمن يقع الكتاب بحوزته ـ لأهميتها القصوى بحيث جعلها الباحث تتصدّر قائمة أدلته . ولا أحد يحيلني للنصوص الثلاثة أعلاه فليست من مصادر التاريخ ولا الأنساب ولا الجغرافيا، في شيء ولا يرجع لها في أي شأن كمصدر يختص بفيفا، وهي لا تعرف موقعه من خريطة الأرض مهما تكلفنا الاجتهاد، ومن يأتي على ذكر فيفا عرضا في ربع سطر عبر مجلدين فلا يعد مصدرا لأخبارها، وأنسابها، وجغرافيتها، لأنه في الحقيقة لا يعلم عنها شيئا، وليست موضوعه، وحتى يدلني القراء على ما نقله الباحث ــ عن كتب التاريخ على أن
منطقة فيفا تقع في (سراة جنْب) ــ تبقى هذه الفقرة من قبيل التهويش والمزاعم الواهية التي لا تستند إلى برهان . ثم يسوق الدليل التالي فقال : ( ثانيا : عندما رحلت قبيلة (رهاء) المذحجية في العصر الجاهلي من جنوب اليمن تخطت قبائل خولان قضاعة حتى نزلت جنوب سراة جنب المعروفة في زمننا هذا بسراة فيفاء واستقرت هناك مع شقيقاتها من قبائل فيفاء المذحجية ووفد منهم وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ، مما
يدل أن هذه المنطقة من ديار (مذحج) قبل أن تشرق شمس الإسلام بمئات السنين ) . ج2 ص303 .
قلتُ : (تنَهَّز) فخطوط سير الهجرات من جنوب الجزيرة العربية إلى شمالها لـ (رهاء) المذحجية ــ التي يترنم بها الباحث حتى بُح صوته ــ أو سواها إنما هي افتراض، واحتمال وتصور، يجيء في سياق الحديث عن موجوات الهجرة العربية من الجنوب للشمال ، وحركتها ، وتعاقبها، وليست حقيقة تاريخية يلزم التسليم بها، وتعقب مسالك الهجرة العربية من الجنوب إلى الشمال في العصور المبكرة ورصدها في الحل والترحال منذو لحظة انطلاقها حتى استقرارها في موطنها البديل بهذا التوصيف والدقة الخارقة أمرا مستحيلا، ولا تتأتى إلا لشاهد عيان يسرد لنا قصة (رُهاء) وكأننا
نتابع فيلما سينمائيا من إخراج جيمس كاميرون . ومن قرأ التاريخ عرف بالبداهة أن الاستدلال بمثل هذه الفرضيات التي لا يدعمها دليل إنما هو غاية الإفلاس، ومنتهى المحل والجدب، لا سيما من قبل باحث يتناول الأنساب بما تشكله من حساسية مفرطة في المجتمعات العربية . وتحديد نقطة جغرافية بعينها أمر محير فعلا فيكون النزول في (سراة جنْب) ولا يكون ذلك كافيا، بل يضيف (المعروفة في زماننا هذا بسراة فيفاء)، لاحظو أن الباحث هنا يتحدث عن تاريخ العرب قبل الإسلام وهو لا يجهل المستندات التي يجب عليه أن يحضرها في معيته وهو يناقش هذه الحقبة الغابرة ، لكنه لا يمتلكها إنها الأدلة الأثرية التي تفيد بمرور أمة تعرف بـ (رهاء) من هنا تحديدا ، وحين يعجز عن توفيرها يلجأ إلى صناعة الأمكنة وابتكار الأسماء الجغرافية فجعل فيفا من جنوب سراة جنْب وهي ليست منه، نعم عند المشاحة تقع ( جنب) إلى الشمال الغربي منه بفاصل يزيد عن 70 ميلا في خط أفقي وتلك ديار جنب التي تسكنها قديما (الحباب) و(الجحادر) و(سنحان) ثم قبائل (شريف) و(عبيدة ) و(بشر) وتعرف
حاليا بـ (سراة عبيدة) ، أما (سراة فيفا) فهو اسم مستحدث طارئ لا يعرفه التاريخ ولا تقر به الجغرافيا، ومناقشة باحث له هذه الأساليب والابتكارات التي لا تخطر على بال أعتى المدلسين فأمر في غاية الصعوبة . ثم طرح دليلا آخر فقال : ( ثالثا : من مواطن قبائل مذحج وادي (ضمد) والمناطق المطلة عليه من جهتي الجنوب والشمال التي هي لاتزال وإلى وقتنا الحاضر من مواطن قبائل فيفاء وبني مالك فيفاء وقبائل حريص ، وما وداي ضمد إلا نسبة إلى أحد أجداد هذه القبائل وهو ضمد بن يزيد بن الحارث بن عُلّة ) ج1 ص304 .
قلتُ: لا وجود لهذا الضمد إلا عند الأكوع محقق الإكليل ولم أعثر عليه في الأنساب ولا التاريخ ولا الجغرافيا، وقد وضع المؤلف حاشية ذات الرقم (2) نهاية العبارة أعلاه، وفي الهامش أحالنا إلى صفحة 76 من صفة جزيرة العرب للهمداني وما عليكم أن تبحثوا عن هذه المعلومة هناك فإن لم تجدوها في متن الصفة فلا تندهشوا ، وإنما تيقنوا أن الفأر قد سبقكم إليها فأكل ضمد بن يزيد بن الحارث ، و هذه ليست المرة الأولى التي يحيل فيها القارئ إلى متن كتاب يخلو من الإحالة تماما ولا يفرق بين الإحالة للمتن وهوامش المحققين فيقع في المحذور غالبا، وسنرى لاحقا أمثلة
كثيرة على ذلك، وعلى افتراض أننا عثرنا على ضمد بن يزيد ــ الذي لا وجود له ــ يظل ما ساقه هنا لا يصح الاستدلال به على أن فيفا تنتسب لمذحج حتى يلج الجمل في سم الخياط ، ولأنه لا يستدل على الأنساب من أسماء الأمكنة والأعلام المشهورة، أو يستنبط من ضفاف الأودية، ومَنَاحِت السيول؛ لمن لم يعرف نسبه فكيف بمن ينتسب إلى خولان قضاعة منذ نشأته ؟ . وقد ساق الهمداني سلسلة أنساب سعد بن سعد بن
خولان إلى أن قال : ( ووَلَدَ داهكة بن الربيعة : عبدا والحويرث بطنان، ودارهم من أسافل ضمد إلى الخفوقة من أعلى بيش ) الأكليل ج1 ص265، وهذا الامتداد الجغرافي يناقض أقوال باحثنا الذي منح ضمدا لمذحج باردة مبرّدة، أما إضافته بني مالك إلى فيفا عند ذكرها فيأتي استغلالا للعبارة التي تضاف للتفريق بين موالكة الطائف عن موالكة جازان، فأضافهم هنا من باب التَّكَثّر جغرافيا ولم يتورع أن يُفَصِّل لهم نسبا ولن يستطيع القارئ التكهن بهذا النسب الجديد الذي خلعه على بني مالك!! (؟؟؟) .... صح! ( مذحج ) كيف علمتم ذلك ؟ .. نعم لقد نسبها إلى مذحج باعتبار أنهم يقعون في أحد رفيدة وفق الخريطة الجديدة لبلاد خولان، وكما فعل ببني مالك فعله ببلغازي فنسبها إلى (؟؟؟)... لا طبعا لن أقول لكم هذه المرة !! .. فأنا أريدك أن (تحْتكون) أنتم!! لكنه لم يضفها إلى فيفا .. وفي الجملة لم يَعُد تحت أديم السماء إلا مذحجي .
وأختم هذه الحلقة بما كنت أشرت إليه في ردي على أحد الأخوة ضمن هامش الحلقة الثانية قال المؤلف : ( وما هذان الحلفان القديمان المعروفان باليهنوي والفرودي إلا كغيرهما من الأحلاف القبلية التي عرفت بها القبائل التي انفصلت عن أماتها ودخلت بالحلف مع قبيلة أخرى، وتسمت باسمها وانضوت تحت إمرتها وتحارب معها) ..... إلى أن يقول : ( وهكذا حدث في قبائل فيفاء التي انضوت تحت حلف (اليهنوي) ، فإنه مع مرور الزمن على هذا الحلف القديم نسيت هذه القبائل نسبها إلى أجدادها الأعلون من مذحج وأصبحوا ينتسبون إلى خولان قضاعة )ج1 ص 322 .
قلتُ : إنا لله وإنا إليه راجعون! مع طول المدة نسيت نسبها الأصلي وانتسبت خطأ إلى خولان قضاعة!! وهنا اعتراف صريح من مؤلف الاستقصاء بخولانية قبائل فيفا نسبا لا حلفا قال ( أصبحوا ينتسبون إلى خولان قضاعة ).. ولكن يا للأسف فقد كان عن طريق الخطأ بحسب الإلهام الذي تنزّل عليه، أو لنقل إنها بعض الكرامات طالما كان عريَّا عن أي دليل، وهو حين يدندن على مسألة الذهول والنسيان الذي اعتراهم فتاهوا عن جدهم الأصلي، فإنه يتناقض كثيرا مع ما قرره من قبل أثناء حشده الأدلة على مذحجية قبائل فيفا وسنعود لاستكمال نقاشها، إنما سبق أن قال ( خامسا : وجود قبائل بفيفاء من الفروع الحديثة تنتسب إلى أجدادها الأعلون من قبيلة مذحج إلى هذا التاريخ) ج1 ص305 .
قلتُ : لم ينتسبوا إليهم بشهادة الباحث أعلاه وإنما هو من نسبهم إلى غير آبائهم، أما هم فينتسبون إلى خولان من قضاعة، والمؤلف يعلل ذلك بالنسيان لتقادم العهد ، أسألكم بالله هل لمحتم شيئا مماثلا كهذا من قبل ؟!!
.
0 التعليقات:
إرسال تعليق